جلست إلى كتاب ذكرياتي الغابرة، أقلب فيه كيفما اتفق، فرأيت الساعة الثالثة ظهراً، في أي رمضان في بلاد السودان تختاره، في أي سنة توده، فقال كتابي وهو يتنهد، بأنها، ساعة تتأبى فيها عقارب الساعة، عن التككان، تحرن، وتعصى على المضي، فهي مثل شعب بوان عند المتنبي، الذي غنى من يأس، طبت فيها فرساننا والخيل حتى، خشيت وإن كرمن من الحران.
الثالثة ظهراً، موعد نشرة الثالثة
يمتنع فيها الزمن عن السير، ثانية ولو لجزء من الثانية، وانت فى مأزق، محاصر بين البون الذي قطعته، والذي يرقد أمامك، وبينك وبين الآذان فراسخ تتسع للدهر، والمؤذنين (دقو)، خروج بلا عودة، فرّ بعضهم إلى جزر الكاريبي، وبعض إلى مناحٍ قصية، ولا أحد يعلم، من سيؤذن للمغرب، حين يحين موعد الإفطار، ساعة ذهاب الظمأ، وحين تبتل العروق، فيدمدم مدفع (الدلاقين) من ضجر، ويعزف (بدر الدين عجاج)، زورق الألحان (بتصرف)، أو ماشاء له خياله العبقري، من أغنيات (جمال الدين وردي الأفغاني).
الساعة الثالثة في نهار رمضان السودان، تتوقف الأرض فيها عن الدوران، حول الشمس، فالصيف أبدي، أو حول نفسها، فالنهار سرمدي.
وكان هنالك، في أقصى أركان المنطقة الصناعية، في (مدني)، مبنىً، يقوم على عمدٍ بائسة، مصنع، أو أنه يُعرف بكنية المصنع، بلا لافتة حتى، ولا أثر يدل عليه، ولا من يعرف من أوجده، أومن اكتشف وجوده، ولكنه هناك، يُعبأ فيه سائل اشهب، إسمه مجازاً، (عصير البرتكان)، يعبأ حتى السدادة، في زجاجات خضر، رقابها رهيفة ممتدة كسحاحة، سائل ذو نكهة متواضعة، من خليط (زيت التربانتين)، و(الشيري)، وكلما كان يعبأ في الزجاجات، قبيل رمضان، سمن (ابقوتة)، والكركار، والزيت المغلي بالغرنجال، ولمحة من روح البرتكان، ولون أصفر معتكر، من (التفتة) أو (الكركم)، او حتى (شوربة ماغي).
والرحلة إلى هذا المكان، تقطع في غير نهار رمضان، في ربع الساعة، وفي نهار رمضان، ساعة ونصف في الذهاب والإياب، تعود منها في نهار رمضان، في مناورات ما يعرف (بتكسير الوكِت)، وقد بلغ منك الإنهاك، مبلغ ما يصيب عداء مارثون، لتجد أن (الوكِت) غيره في رمضان، لا يتكسر أبداً، وأن الساعة التي حلمت بأنها ستكون حسب منطق الرياضيات والفيزياء النووية والكوانتمية، الرابعة والنصف، تقدمت خمس دقائق فقط، فهي الثالثة وخمس دقائق بالضبط، وكل ثانية لها وقعها في القلب.
لابأس، ساعة ستقضيها، في تمديد (الخرطوش) الساخن، الذائب، المتهالك على نفسه، والذي أصبح في حال القماش الرجاف، والذي سماه الناس، (الهوا همزني)، مكوم في ركن البيت، عند زاوية باب الحوش، ذو المظلة الأسمنتية، لصق الحمام، ستتهيأ لطقس رش الحوش، لساعة تعادل في نهار رمضان، دقيقتين، وهذا هو المذكور في أغنية (الحب والظروف)، حيث يقول (هوميروس)، الساعة أقصر من دقيقة، لتكن دقيقتين لافرق ولا غرابة، سترش الحوش، وترابه ذرة ذرة، وتلقانا بنحبك أكتر كل مرة، ركناً ركناً، سترش الريحان، مثل مخخنجي، والحنة، والجيران والحِله، و الشافع (اب تنبلة)، وفي عمق هذه الأثناء، وجهك وقدميك المغبرتين، الحوائط حتى تنفث صهدها، ويتساقط عنها الطِلاء، والمعزتين وقفص الدجاج، وكل نبت طفيلي، وكل ثائر في جهادو ، قصدو تتحرر بلادو.
تعبئ باطن الأزيار وتغسل ظاهرها، تتملكك الرغبة في اختلاس النظر، إلى (السيكو فايف)، التي تشنق معصمك، أداة زينة في غيرما نهار رمضان، دون جدوى، وبعينين كابيتين، إنطفأ فيهما البريق، تنظر (البرتكان)، داخل الزجاجات الخضر الشفافة، داخل التلاجة (الكولدير)، وقد أختلط لونها ولون السائل، فأنتجا ما يمكنك تسميته بلون العطش. تدق الرابعة، والأرض في مكانها تسير، العسكريون يسمون ذلك خطوات تنظيم.
في الساعة الخامسة، تبدأ افواج (الطافيات)، في غزو ناظريك، تسبح في غزارة، على مرمى بوصة من وجهك، تهرش عينيك هرشاً، وهاهي ذي تعود أشد باساً، برسومها المفصلية، في دقتها الهندسية، ما أن تتبعها بعينيك، حتى تفر منك، تعود حين تصرفه عنها، أميبية لا تعلم إن هي حقيقة أم وهم، وفي الخامسة وخمس دقائق، حاورني جارنا الشيوعي فقال (الرسول صام تسعة رمضانات، دي مش مفروض تكون سُنّة؟) ، و حينما سأله القوم، لماذا تصوم أنت أصلاً، أجاب (رجالة سااااي). وأفطر صديقنا ابو الجاز تلك السنة، متعللاً بدعوى أن طبيب العيون اوصاه بلبوس النظارة الطبية، وضعف النظر مرض، قال بأنه يبيح الإفطار.
ليلة القدر:
حدثني (بيجو)، وهذا اسمه، مسرع، يكسر (الوكِت) إيما تكسير، ومتى ما أراد، في مقتبل صباه، ومنتهى عنفوانه، عاطل من اي موهبة، سوى المروءة، في دفع العربات، وحيوية زائدة بلا جهة تبذل فيها، حدثني بعد الإفطار، والسجارة الاولى تفعل سحرها، بعيداً عن أعين الأعمام الغلاظ، دوخة لا تدانيها (دوخة العرب)
“ياخي في مرا عجوز خواجية في الانترنت، قالت لي أنا معجبة بيك، ولو عايز بتعمل لي فيزا وتيكيت، قالت تجي تسكن معاي هنا في ألمانيا ، عليك الله دي ما ليلة القدر يا تاجو؟”
أجبته “شوف لي أختها كان ترضى”
ثم واصلنا في التمدد على البرش، ننفث الدخان، حيرى، نتأمل في الكيزان، وهم يتسللون، من بين جثث شهداء الثورة، وكأن شيئاً مما كان، لم يكن، ثم رحنا في إغماءة عصير البرتكان والشيري والتربنتين والكركار، والقنقلوز، كما يقول الحنكوش.
تاج السر الملك