يشكل الصراع الحالي بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني أحد العناصر المحورية السياسية الهامة في القارة الإفريقية. حيث يمزق النزاع أوصال البلاد، مخلفًا وراءه دمارًا واسع النطاق ليس فقط في البنية التحتية، ولكن أيضًا في النسيج الاجتماعي والبيئي للسودان. هذا الصراع العنيف ينذر بتداعيات ممتدة على المجتمع والبيئة، حيث يؤدي إلى تفاقم مشكلات مثل إزالة الغابات، تدهور جودة المياه، وفقدان التنوع البيولوجي، مما يضع ضغوطًا إضافية على الموارد الطبيعية والبشرية الهشة في البلاد.
وقد تناول بعض الباحثين والكتاب مؤخراً، عن الأخطار البيئية التي بدأت في الظهور. واحدة من النتائج المأساوية لهذا الصراع، والتي بدأت تأخذ نطاقاً واسعاً في النقاش، هي الجثث المنتشرة في الشوارع، التي تتحلل تحت أشعة الشمس الحارقة، مشكلةً مشاهد مروعة تشهدها المناطق الحضرية والريفية على حد سواء. وتساهم هذه الواقعة في تفشي الأمراض، وتؤدي إلى ظواهر بيئية وصحية خطيرة، مثل انتشار الكلاب الضالة التي تنهش هذه الجثث، مما يزيد من خطر انتقال الأمراض البكتيرية والفيروسية إلى البشر. بالإضافة إلى ذلك، فإن دفن الجثث بطرق عشوائية، بما في ذلك داخل المنازل، وفي الأماكن العامة، يؤدي إلى تلوث التربة والمياه الجوفية، ما ينذر بأزمة بيئية قد تتفاقم مع مرور الوقت.
تتعدد الآثار البيئية السلبية الناجمة عن هذه الممارسات، حيث تترك بصماتها على حياة الناس اليومية وقد تستمر لسنوات طويلة حتى بعد انتهاء النزاع. التلوث الناتج عن تحلل الجثث والدفن غير اللائق يمكن أن يؤدي إلى تفاقم مشكلات الصحة العامة ويعيق جهود إعادة الإعمار والتعافي في مرحلة ما بعد الحرب. لذا، تصبح الحاجة ملحة للتعامل مع هذه القضايا بشكل علمي فوري وفعال، لتجنب تدهور الوضع البيئي والصحي ولضمان سرعة استعادة الاستقرار والتنمية المستدامة في البلاد.
يعكس النزاع الجاري في السودان، المتمثل في الصراع بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، ليس فقط خلافات في السلطة والسياسة، بل إمتد ليضيف بُعداً جديداً للمشاكل البيئية والاقتصادية الموجودة من قبل. فقبل الصراع، كانت البيئة بالفعل في حالة سيئة، والآن تجد الموارد الطبيعية، وخاصة الماء والتربة، نفسها تحت ضغط هائل نتيجة للأضرار الجسيمة التي لحقت بها من جراء الحرب.
فتأثر مصادر المياه، والتي كانت تعاني أساسًا من المشاكل مثل التلوث، وعدم وجود البنية الصحية والرقابية، والاستهلاك المفرط، بانخفاض كبير في الجودة والكمية. هذا التدهور ذات تأثيرات مباشرة على الزراعة والأمن الغذائي، خصوصاً مع تعطيل البنية التحتية المائية خلال الحرب، مما جعل الحصول على المياه الصالحة للشرب أصعب بكثير للعديد من السكان.
على الصعيد الاقتصادي، أثرت هذه الحرب اللعينة بشكل كبير على العمود الفقري للاقتصاد السوداني، الزراعة. ونتج عن التدمير الواسع النطاق للأراضي الزراعية وتشريد السكان تراجع حاد في الإنتاج الزراعي، الأمر الذي أضعف الاقتصاد الوطني وفاقم من مشكلات الفقر والجوع.
أما البنية التحتية، التي كانت تواجه بالأساس تحديات بسبب الإهمال والعيوب قبل الحرب، فقد تعرضت لتخريب شامل. فتدمير الطرق، والجسور والمرافق الصحية، وشبكات الطاقة، أدي الي عرقلة وبشكل كبير أي مساعي للتجديد والتأهيل، وأدى إلى تفاقم الأزمات الإنسانية والبيئية التي نشاهدها كل يوم.
في أعقاب الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، واجهت البلاد تحديات بيئية وصحية هائلة ناجمة عن الحرب. التأثير البيئي كان مدمراً، حيث أدى إلى تدهور كبير في البيئة الطبيعية من خلال قطع الأشجار وتدمير الموائل، مما أثر على النظام البيئي بأكمله. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت الجثث التي لم تُدفن بشكل صحيح في تلوث مصادر المياه، مما أدى إلى انتشار أمراض خطيرة مثل الكوليرا والدوسنتاريا. الآثار الصحية لهذه البيئة المتدهورة استمرت لسنوات، حيث واجهت ومازالت بعض المناطق تحديات بالأمراض الناتجة عن الظروف البيئية حتى الآن، خاصة في الأماكن التي تفتقر إلى الخدمات الصحية الكافية.
رغم هذه التحديات الهائلة، بدأت جهود إعادة الإعمار والتحسينات البيئية في رواندا مباشرة بعد النزاع. تضمنت هذه الجهود إعادة تحريج المناطق المتضررة وتحسين إدارة الموارد المائية لمحاولة معالجة الضرر الذي لحق بالبيئة. على الرغم من صعوبة تحديد الفترة الزمنية الدقيقة لمحو آثار الحرب البيئية، إلا أن البلاد استطاعت تحقيق تقدم كبير في هذا المجال.
تُعلمنا رواندا، ومن خلال الدعم الدولي، كيف تعيد بناء نظامها الاجتماعي والاقتصادي والبيئي بطريقة مستدامة، مما يوفر دروسًا قيمة لبلدان أخرى تواجه تحديات مماثلة. في هذا السياق، يمكن للسودان الاستفادة من تجربة رواندا في إعادة تأهيل البنية التحتية، تحسين إدارة الموارد الطبيعية وإعادة الإعمار الاقتصادي والاجتماعي. الدروس المستفادة من رواندا، جنبًا إلى جنب مع تجارب بلدان آسيوية وأمريكا اللاتينية التي واجهت تحديات مشابهة، يمكن أن تشكل أساسًا لتطوير استراتيجيات فعالة تعزز من قدرة السودان على التعافي والتطور بعد نهاية الصراع، ولو جزئياً.
عودة سكان السودان وأم درمان القديمة بشكل خاص، إلى مناطقهم ومنازلهم في ظل الأوضاع الحالية قد تحمل مخاطر بيئية وصحية هائلة. الجثث المتحللة في الطرقات وانتشار الكلاب الضالة، التي قد تسكن المنازل وتنهش في الجثث، تشكل خطراً بيولوجياً كبيراً. هذه الأوضاع قد تؤدي إلى انتشار أمراض خطيرة مثل الكوليرا، الحمى الصفراء، وأمراض أخرى يمكن أن تنتقل عبر الحيوانات أو بسبب تلوث المياه والتربة. ومع عدم وجود بنية تحتية صحية قادرة على التعامل مع هذه الأوضاع يزيد من صعوبة الوضع، حيث قد لا تتوفر المياه النظيفة، نظم الصرف الصحي، أو الخدمات الطبية الضرورية لمواجهة هذه التحديات. الحرب التي ما زالت على وضع كر وفر، وعدم الاستقرار الأمني المصحوب بعمليات النهب والسلب، تجعل من الصعب إجراء أي تدخلات فعالة لمعالجة هذه المشكلات.
هذه الظروف تتطلب استجابة متعددة الأبعاد تشمل ليس فقط إعادة البناء الفيزيائي للبنية التحتية، بل أيضاً برامج صحية عامة للتعامل مع المخاطر البيولوجية، تأمين المياه النظيفة، وتوفير الرعاية الطبية الطارئة. الدروس المستفادة من تجارب الدول التي مرت بصراعات مشابهة قد تقدم بعض الإرشادات حول كيفية التعامل مع هذه التحديات بفعالية.
التجارب الدولية في التعافي من الآثار البيئية للصراعات تقدم رؤى قيمة يمكن تطبيقها في السودان، الذي يواجه تحديات مماثلة نتيجة الحرب الجارية. من فيتنام والكونغو إلى العراق وأفغانستان، وكذلك في دول أمريكا اللاتينية مثل كولومبيا، شهدت البيئة والصحة العامة ضربات قاسية بسبب الحروب. ومع ذلك، قدمت هذه الدول أمثلة على كيفية التعافي وإعادة البناء.
في السودان، يمكن أن تتركز الجهود على تحسين إدارة الموارد الطبيعية وإعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة بطرق مستدامة، مع التركيز على تعزيز القدرة على الصمود في مواجهة التحديات البيئية. على غرار ما تم في دول أخرى، يمكن للسودان العمل على إعادة التحريج وحماية الموارد المائية لمواجهة التصحر وفقدان التنوع البيولوجي، مما يساهم في تحقيق الأمن الغذائي والاستقرار الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر دعم الزراعة المستدامة وتحسين البنية التحتية الصحية أساسيين للتخفيف من الأمراض التي يمكن أن تنجم عن الآثار البيئية للحروب، مثل الأمراض المنقولة عبر المياه والمشاكل الصحية الناجمة عن التلوث، ودفن الجثث.
من الضروري أيضًا اعتماد نهج شامل يشمل المجتمع المحلي في جهود الحفاظ على البيئة وإعادة الإعمار، لضمان تبني الحلول بطريقة مستدامة وتحقيق السلام الدائم. كما يمكن للسودان الاستفادة من المعرفة والخبرات الدولية، والشراكات مع المنظمات الدولية والإقليمية، لتعزيز قدراته في مجالات الحفاظ على البيئة وإدارة الموارد الطبيعية بفعالية.
في هذا السياق، تصبح الدروس المستفادة من دول أخرى مرت بتجارب مماثلة في التعافي من الآثار البيئية للصراعات أساسية للتخطيط الفعال وتنفيذ استراتيجيات تعزز الاستقرار والتنمية المستدامة في السودان.
لمواجهة التحديات البيئية والاقتصادية في السودان، من المهم وضع استراتيجية شاملة مستلهمة من دروس الدول الأخرى التي خاضت صراعات. ينبغي أولاً إعادة بناء البنية التحتية الأساسية والمرافق العامة مثل الطرق، المستشفيات وشبكات المياه والكهرباء بأسلوب يراعي الاستدامة وقدرة التحمل للكوارث.
من الضروري أيضاً تنفيذ برامج لتنقية المياه وإعادة تأهيل الأراضي لضمان توافر موارد طبيعية نظيفة وأراضٍ صالحة للزراعة. يتضمن ذلك تحسين إدارة النفايات والحد من التلوث. دعم المجتمعات المحلية عبر برامج التعليم والتدريب، خصوصاً في المناطق الريفية، سيعزز الممارسات الزراعية المستدامة وإدارة الموارد الطبيعية.
إشراك السكان المحليين في عملية صنع القرار سيضمن الاستخدام المستدام للموارد ويعزز بناء السلام والاستقرار. كما أن التعاون الدولي والإقليمي مهم لتبادل المعرفة والموارد، مما يسهم في تسريع عملية الإعمار ودعم التنمية المستدامة.
رغم الصعوبات الجمة التي يعيشها السودان، يبقى الأمل موجوداً في إمكانية تجاوز هذه التحديات من خلال تبني نهج شامل يجمع الحلول البيئية، الاقتصادية، والاجتماعية. التجارب المستفادة من الدول الأخرى التي واجهت مواقف مماثلة يمكن أن تشكل مرشداً لإعادة البناء والتطوير في السودان، نحو مستقبل ينعم بالإشراق والاستدامة.
أمجد شرف الدين المكي
جامعة سالفي – أمريكا
amgadss@gmail.com