صدر في شهر فبراير من العام الحالي 2024م، عن دار نشر ” كل العرب ” بباريس، كتاب بعنوان: ” بين النيل والسين: في العلاقات السودانية الفرنسية “، من تأليف الأستاذ يحي إبراهيم النيل، أستاذ اللغة الفرنسية سابقاً بالمدارس الثانوية بالسودان، وبالمركز الثقافي الفرنسي، والموظف المحلي لعدة سنوات أيضاً بالسفارة الفرنسية بالخرطوم. ولقد شهدت حفل تدشين هذا الكتاب، الذي جرى بفندق الحياة ريجنسي بحي ” بورت مايو ” بالعاصمة الفرنسية. وأود فيما يلي، أن أشرك القراء الكرام في التقديم الذي كتبته لهذا السفر المهم في بابه، تعميماً للفائدة.
طلب الي الأخ والصديق الأستاذ يحيى إبراهيم محمد احمد النيل، زميل الدراسة وابن الدفعة بقسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب بجامعة الخرطوم 1979-1984م، أن أكتب له تقديماً لسفره هذا الذي بين أيدي السادة والسيدات القراء الكرام، الموسوم بـ “بين النيل والسين: في العلاقات السودانية الفرنسية”. وبالطبع فأن مقتضيات الصداقة والزمالة والاخاء التي ظلت ممتدة وعامرة منذ ما يربو عن الأربعة عقود بحمد الله، فضلاً عن مقتضيات صلتي المعرفية، وخصوصاً المهنية بموضوع العلاقات بين السودان وفرنسا الذي هو موضوع هذا الكتاب، قد حتمت علي بالضرورة، بل حفزتني على الاستجابة الناجزة لطلب المؤلف الأخ يحيى إبراهيم.
أود بادئ ذي بدء، ان أعرب عن تقديري للأستاذ يحيى على أن خصني بالشكر من ضمن من شكرهم في استهلال الشكر والعرفان بالكتاب، كما اود ايضاً، التنويه بأنه قد سرني أن المؤلف قد جعل كتابي بعنوان: “قضايا العالم الإسلامي من منظور المنهج الاستشرافي والبحثي الفرنسي”، الصادر عن مركز دراسات العالم الإسلامي بالخرطوم في عام 2008م، أحد مراجع كتابه.
إن هذا الكتاب ممتع ومفيد غاية الفائدة لعامة القراء، وخصوصاً المهتمين منهم بقضايا تاريخ السودان الحديث والمعاصر، وعلاقاته الدولية، وسياسته الخارجية خلال فترة ما بعد الاستقلال، وبصفة أخص لأولئك المهتمين منهم بعلاقات السودان بالجمهورية الفرنسية على وجه التحديد، من دبلوماسيين مهنيين، وغيرهم من أساتذة وطلاب في مجالات الدبلوماسية، والعلاقات الدولية، والعلوم السياسية بصفة عامة.
أما نحن في سفارة السودان في باريس، فأن هذا الكتاب قد صدر بالنسبة لنا في وقته تماماً، ليسد لنا ثغرة مهمة، أو أنه قد “وقع لنا في جرح” كما نقول في تعبيرنا العامي، ذلك بانه يذخر بمعلومات ثرة ومفيدة وحسنة الترتيب، حول وقائع التاريخ المعاصر للعلاقات السودانية الفرنسية، وخصوصاً في الجوانب المتعلقة منها بالتعاون الثنائي: الاقتصادي والثقافي، مما يساعد بكل تأكيد على إحكام استكمال وتنقيح قاعدة بياناتنا، وملفاتنا ذات الصلة، وتلك لعمري فائدة عملية غير مذكورة لهذا الكتاب.
كذلك يطيب لي أن أحيي المؤلف على إفراده علاقة السودان بالفرانكفونية بفقرة معتبرة، سوف نستصحب ما ورد فيها من أفكار نيرة، من شأنها أن تعيننا على تفعيل وتنقيح ملفنا المعد سلفاً منذ بضعة عقود في الواقع، من بيدي سعي السودان الدؤوب للحصول على عضوية المنظمة الدولية للفرانكفونية.
كذلك استوقفني في هذا الكتاب بإعجاب، احتواؤه على معلومات ثره ودقيقة ومرتبة بدقة، بالوقائع والتواريخ، لمواقف فرنسا المحمودة بإزاء ثورة ديسمبر المجيدة بالسودان، ونجاحها في إسقاط النظام الدكتاتوري السابق في 11 أبريل 2019م، ومساندتها لعملية التحول الديمقراطي بالبلاد، وخصوصاً رصده الدقيق لمواقف فرنسا حيال أحداث الحرب الجارية في السودان منذ الخامس عشر من شهر أبريل 2023م، مما شكل رصداً توثيقياً مفيداً للغاية في هذا الجانب، يُحمد لهذا المؤلف والباحث المدقق بكل تأكيد.
وإن كان لي من تعقيبات أو ملاحظات عامة على مادة الكتاب، فأود أن أشير – على سبيل المثال – بمناسبة تطرق المؤلف في أوله إلى صلة الفرنسيين بالسودان خلال فترة ما قبل الاستقلال، إلى مقال شامل جامع مانع في هذا الباب، من تأليف الأستاذ الدكتور عون الشريف قاسم رحمة الله، جاء بعنوان: “الرحالة الفرنسيون الى السودان في القرن السابع عشر”، نشر بالعدد الرابع من المجلة السودانية للدراسات الدبلوماسية، الذي صدر في شهر فبراير 2005م، ولعل المؤلف لم يقع على خبره.
كذلك أرجح ألا يكون المؤلف على علم بكتاب (l’Empire de Rabeh) لمؤلفه التشادي من أصل سوداني: جماع أرباب بابكر، ذلك السفر الذي صدر بالفرنسية في باريس في نحو عام 1950م، وجرت بضعة محاولات لترجمته الى العربية في السودان تحت عنوان “إمبراطورية رابح”، إلا أن أياً من تلك الترجمات لم تصدر بعد للأسف، رغم أهمية هذا الكتاب ومصداقيته، لان مؤلفه هو نجل أحد قادة جيش رابح ود فضل الله، وهو من عبدلاب الحلفاية، ويمت بالقرابة اللصيقة للمخرج المعروف بتلفزيون السودان، الأستاذ ميرغني عجيب.
وختاماً، أزدان هذا السفر حقاً، بسرد وتوثيق مقتطفات من سير بعض الشخصيات من الرجال والنساء السودانيين والفرنسيين، وخصوصاً في التاريخ المعاصر، الذين كان لهم حضور باذخ ومميز في مسيرة العلاقات بين السودان وفرنسا، والذين أفرد لهم المؤلف باباً كاملاً هو الباب الثالث الذي اختار له عنوان: “جديرون بالاحترام”. وهذا العنوان “جديرون بالاحترام”، كأنما استوحاه يحيى من عنوان بذات الصيغة أو قريب منها، درج أديبنا الراحل صلاح أحمد إبراهيم على عنونة سلسلة من المقالات بها، كان ينشرها بمجلة “اليوم السابع” الباريسية قبل رحيله في عام 1993م. وقد شملت تلك الشخصيات أسماء لامعة فعلاً مثل: الدكتور بشير البكري 1918 – 2010م، عميد الفرانكفونيين السودانيين، وأول سفير للسودان بفرنسا، والشاعر الكبير الأستاذ صلاح احمد إبراهيم 1933-1993م، وأستاذنا الدكتور يونس الأمين. ومن الفرنسيين، الدكتورة أمينة فيفيان ياجي، والسفير ميشيل رمبو على سبيل المثال فقط.
بيد أننا نرى أن هنالك أيضاً شخصيات أخرى من كلا الجانبين، جديرة بأن تدون أسماؤهم في هذا السجل الخالد، سوى أن المجال ربما يكون قد ضاق على المؤلف بطبيعة الحال.
تلك لعمري شخصيات مثل: الدكتور حسن الترابي والدكتور منصور خالد وهما من هما، والأستاذ صلاح الصديق المهدي، الذي حدثني أستاذ وصديق فرانكفوني ثقة، أنه يعتبره أفضل سوداني نطق بالفرنسية على الاطلاق، والسفير الموسوعي العلامة صلاح عثمان هاشم. ولئن كانت الراحلة السيد سيدة كرار تستحق الذكر من بين تلك المجموعة، فإن زوجها الدكتور سيد ميرغني السيد أمد الله في أيامه ومتعه بالصحة والعافية، والذي هو أول طالب طب سوداني يدرس في فرنسا منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، وأول طبيب أخصائي سوداني يعمل في فرنسا، يستحق أن يسجل كأحد أبرز أيقونات الجالية السوداني المقيمة بفرنسا على مر العصور. وهناك من الجانب الفرنسي شخصيات مثل: أندريه لادوس، مؤسس شعبة اللغة الفرنسية بكلية الآداب بجامعة الخرطوم في عام 1962م، والبروفسور جان لوكلان، 1920-2012م، عالم الآثار والتاريخ السوداني القديم، والحاصل على وسام النيلين من الطبقة الأولى، الذي شغل لاحقاً، منصب السكرتير الدائم للأكاديمية الفرنسية للنقوش والفنون الجميلة، والسيد كريستيان لوشون المستعرب القدير، الذي شغل منصب المستشار الثقافي بالسفارة الفرنسية بالخرطوم في سبعينيات القرن الماضي، وترك بصمات واضحة في سجل علاقات التعاون الثنائي في المجالات الثقافية والتعليمية، وبالطبع صديقنا وصهرنا السفير جان كريستوف بليار “رشيد”، الذي ظل مرتبطاً مهنياً بالسودان منذ أن عمل دبلوماسياً ناشئاً بسفارة فرنسا بالخرطوم في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وإلى أن صار مديراً لإدارة إفريقيا والمحيط الهندي بوزارة الخارجية الفرنسية في بداية العقد الثاني من القرن الحالي، والمحاور الدبلوماسي الرئيسي للدبلوماسيين والساسة السودانيين في الحكومة والمعارضة معاً، فضلاً عن صلته الاجتماعية بالسودان، نظراً لاقترانه بسيدة سودانية له منها أطفال.
ومهما يكن من أمر في الختام، فإنني قد استمتعت بقراءة هذا الكتاب، واستفدت منه فائدة جمة، كما كشفت لي قراءتي له، عن جملة من التساؤلات والنقاط المثيرة لشهية البحث والتنقيب، وصولاً الى فهم أعمق للإشكاليات التي طرحها بوضوح وقوة وعمق، وأنا أدعو سائر القراء للاطلاع عليه، للإفادة منه كم أفدت بطبيعة الحال.
khaldoon90@hotmail.com