لسعتني الشوربة الساخنة في حلقي عند الإفطار، وكنت أظنها دافئة، فإذا بها حميم، وخشيت أن يلتهب بلعومي في اليوم التالي، فأضطر لمراجعة الأطباء، وأدخل في دوامة الأدوية والمضادات التي لا تطيقها النفس.
أجسادنا ضعيفة مهما ظننا أننا أقوياء ومهما أخذتنا النشوة بالعافية؛ فالضرورة تضطرنا مرغمين إلى زيارة الطبيب، والعلل لا تستثني أحداً، والحاجة إلى الأطباء ومختصي الرعاية الصحية لن تنقطع ما دام الإنسان هو سيد هذا الكوكب.
الجديد في الحالة السودانية أننا سنحتاج في مرحلة ما بعد الحرب إلى عون طبي لا يختص بالجسد وحده، فعيادات الأطباء النفسيين ستكون مقصد الكثيرين، وما فعلته بنا الحرب يشحن دواخلنا بشلالات من الأحزان لا قبل لنا بها، هكذا سترتفع بورصة الطب النفسي، الذي يبدو أننا كنا نغفل حاجتنا المستمرة له حتى قبل الحرب، لنصبح مجبرين على الجلوس في طوابير الطالبين لعونه بعد الذي عشناه ورأيناه!
أحد معارفي له أسلوبه الفريد في صد الهجمة النفسية جراء الحرب، فهو لا يتطرق لها من بعيد أو قريب، ولا يبدي رأياً فيما يجري، ويمارس حياته كما لو أنه لم يسمع بكل هذه الأحداث في السودان. هل، يا ترى، هو نوع من (الصدمة) التي ترفض الواقع ولا تعترف بوجوده، أم هي فلسفة اقتدى بها الرجل فصنع منها صَدَفة متينة تقيه من الأوجاع وما أكثرها (!). أغبطه على أسلوبه، فقد اختار وسيلة يتعامل بها مع الحدث، ولا أحد ينازعه على حقه في اختيار ما يرى!
على أي حال، لم تسبب رشفة الشوربة الحارقة أي تطورات سالبة، وأظن أنها لم تكن بالحجم الذي يدفع حلقي لدق الأجراس، خصوصاً وأنني سارعت بعدها لملعقة من سلطة الروب الباردة، لعلها كانت، بفضل الله، برداً وسلاماً على المنطقة الملسوعة.
احذروا اللسعات، واجعلوا سلطة الروب قريبة ما استطعتم. وصوماً مقبولاً وذنباً مغفوراً بإذن الله.
…………..
عزف ونزف:
(الشاعر نجيب محمد علي):
الحدائق تأكل أشجارها
والحرائق تفضح أسرارها
والمدائن تركض مذعورة من جحيم الصراع
والشواهد تنطق أسماء من يسكنون القبور
فكيف سيولد طير الهوى في زمان النسور؟!