قال رسول الله عن الغرباء: الذين يَصِحُونَ حين يَفْسُدُ الناس. وذلك يعني أن يكون الضمير حيّاً يقِظاً، وليس هناك شيء أكثر مشقّة في هذه الحياة من امتلاك ضميرٍ حيٍّ ومراقبته حتّى لا تنطفي جذوته في بلدٍ مصيبته أهله.
وهذا خلق المؤمن المأمور بخلافة الله في أرضه، لأنّ ميزانه هو ضميره، وهو مناط التكليف، لأنّه سيّد على العقل، وبالقلب يعقل الإنسان إن كان قلبه سليماً فيثبت على المبدأ، ويتذبذب إن كان سقيماً.
فما بالك بمكابدة إنسان وهب نفسه لمحاربة الظلم والجهل والإفساد في بلد أهله فقر في الفكر والضمير؟ أيُّ معاناة سيقاسيها وأيُّ إحباط سوف يعتور ليله ونهاره؟ فما أشقي أن تحمل قبساً من نور الحق لجاهل لتكشف عنه ظلمة حاله فإذا هو يستضيء بنورك ليقتلك؟
كمال الجزولي أذاب قلبه السليم ضرام الشغف بالوطن وبناسه، والشغف قرين الإخلاص والتضحية وحدّة الطبع، ولكنّها كالقشرة القاسية للثمرة تخفي وراءها حلاوة لمن يصبر عليها. كان ذكاءه الأخلاقي عالياً ممّا يعني البعد عن النفاق والصدح بالحقيقة في بلد تقتات بالكذب والشائعات ليل نهار وتهرب من الحقائق وتجمّل القبح وتُنكر الواقع، فأيّ معاناة هذه وأيّ ألم ذاق أمرّيه؟
أن تكون أسيراً لضمير حيٍّ يعني أن تكون أسيراً للإيثار، حرَّاً من الأثرة، فالأول ديدن الصالحين والثاني ديدن البخلاء التافهين. ولذلك ثمن وأيّ ثمن. إنّها حمل الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض، وحِمْلُها بجهل عاقبته وخيمة على الجميع، وحملها بوعيٍ وزنه ثقيل في ميزان الرحمن، وثمنه غالٍ لا يدفعه إلا من وهب نفسه للخير، ولا يقوم بشأنها إلا أولو العزم من الذين وهبوا أنفسهم لرسالتهم.
كمال الجزولي كنز وطني، كان نسيج وحده، صرامة علمية في التفكير نقداً وتحليلاً، ودقّةً في المفاهيم، وبلاغة في اللغة؛ وقوّةً في الحُجِّة، ووضوحاً في العرض، وجمالاً في التعبير، وحرصاً على توصيل المعني تشكيلاً وضبطاً. وهذا عملُ الشِقِّ الأيسر من المخ إذ يُعني بالمنطق والقوانين، ممّا يعني الرضوخ للقيود المكبّلة للانعتاق والانطلاق، وهو ما جعله متميّزاً في مبني الأشياء وفي عمله في مجال القانون، ولكنّه أيضاً شاعر مجوّد، ومفكّر عميق وروائي، وذلك يعني الميل للانعتاق من القيود والإبحار في محيط المعني، والتحليق في سماء معني المعني، وهذا عمل الشِقِّ الأيمن من المخ للمبدعين.
هذا التأرجح المحموم بين قطبي العقل والروح مال ناحية الإبداع في إجماله، وهو ما كان له القيمة الكبرى في نفسه، ولكنّه عاش نزاعاً بين القيود وكسرها، وكسرها كان الأقرب لسجيّته لأنّ غريب النفس، لا يجد ضالته في الموروث، وإنّما ينشدها في الغريب، ولذلك لم تجذبه أنصارية أهله، وإن تشبّع بروحها وقيم التضحية فيها، ووجد الأجوبة في الفكر الماركسي الذي ساعده على فك طلاسم الفوضى الفكرية وفهم الحياة.
ولكن تعلّقه بالفكر كان أكثر من السياسة والنشاط؛ إذ في عرفه أنّ السياسة والنشاط يتبعان الفكر؛ الذي له قابلية النمو والتغيير على عكس اللوائح والنُّظم، والتي يرتعد المستمسكون بها من فكرة التغيير، فيعشقونها ويدمنونها، ويحاربونها لأنّها تسحب إحساس اليقين الزائف منهم، وبدلاً من أن يصير الولاء للفكرة يصير الولاء للتنظيم، ويصير الناس كهنة للمعبد وعبدة لصنم الرسول بدلاً من رسالة الرسول، والتي لم تكن في أوّل الأمر إلا محاولة لتحريرهم من أغلال الجهل والظلام، وهذا ديدن الإنسان منذ بداية تاريخه ولذلك جاءت الرسل تترا.
لم يخف كمال الجزولي تأثير موروثه الثقافي على طبعه وقناعاته، خاصّة عندما تتعارض مع تفكيره العلمي الصارم ولا يجد لها تفسيراً عقلانيّاً، فقد كان صادقاً مع نفسه.
كنا نتحدث عن تجربتنا مع شخص جمعنا به درب الحياة وخدعنا، وحكي لي مواقف عديدة استغلَّ فيها هذا الشخص سلامة نيّة كمال الجزولي وحسن ظنّه بالناس، أو إحساسه العميق بالمسئولية الروحية تجاه الآخرين لإنقاذهم من أنفسهم؛ ما استطاع لذلك سبيلاً، وبعد أن تساءل عن سبب انخداعه المتكرّر ولم يجد له إجابة تشفي غليله قال لي:
“ما تقول لي إنّي شيوعي وعلمي وحاجات زي دي، والله الزول دا كاتبني فوق جناح بعوضة”، وأطلق ضحكة عالية أعقبها بنوبة سعال حادة.
العناد صنو التصميم والثبات، وفي أطرافه إفراط وتفريط وهو مفيد للآخرين إن كان فيه إفراط، ولكن فيه تفريط في الطرف الآخر في صحة العنيد جسديّاً ونفسانيّاً، ولا يكون العزم، وهو طبع الرسل، إلا مع العناد أو ما يبدو عناداً، وهذا طبع سائد عند كمال الجزولي كلّفه صحّته وحياته.
كمال الجزولي نحسبه من الصالحين المقربين وعلامة صلاحه عمق إيمانه، وترجمة عقيدته في سلوكه رحمة بالناس، وصبراً على أذاهم، وتفريجاً لكربهم، ومحاربة للظلم، وتضحية بالمال والوقت والصحّة، وثباتاً على المبدأ، وإخلاصاً في العقيدة، وتحكيماً للعقل، وذوداً عن المساكين، وفهماً لمقاصد الدين، وإحساناً في الفكر والأدب.
ودمتم لأبي سلمي