غاب عن دنيا الناس عمنا الغالي سعادة العقيد معاش موسيقار محمد الحسن السنجك أثر سقوط دانة بمنزله بحي (الدوحة) بأم درمان ليسجل اسمه في دفتر الموتى الذي كلنا له ذاهبون (شهيدا بإذن الله)؛ فأي لوعة وأي عذاب يمكن ان تحتمله قلوبنا بهذا الفقد الجلل، فقد عاش بيننا الراحل بعصامية نادرة؛ ثابره واجتهد حتى نحت اسمه بأحرف من ذهب على جدار الإبداع السوداني؛ كما عاش بيننا بإنتاج فني رفيع المستوى والذوق؛ وكان له القدح المعلى في تشكيل الوجدان السوداني.
عاش الراحل حياته ملهما للحنايا وشغاف الفؤاد؛ مرشدا وناصحا لنا نحن ابناءه ولجميع أهله وعشيرته ومحبيه؛ ومن أقداري السعيدة في هذه الدنيا بفضل دعوات أمي وأبي ورضاهم عني بعد الله سبحانه وتعالى بأنني اصبحت أحد أفراد أسرة سعادة العقيد محمد الحسن السنجك عندما تقدمت لأصغر كريماته واكرمني الراحل بكرمه الفياض ووافق على طلبي وكان ذلك في خريف العام 2006 ومنذ ذلك التاريخ كان لي عظيم الشرف والفخر والاعتزاز بان أصبح أحد أفراد هذه الأسرة الكريمة وان اصبح ابناً للراحل؛ وكانت تلك العلاقة المقدسة هي المدخل لمعرفة سعادة العقيد محمد الحسن السنجك؛ والتقرب لمعدن جيل من عتاة المثقفين الذين تأهلوا علميا وأكاديميا فأصبحوا من رواد الإبداع والثقافة السودانية؛ عاش عمنا السنجك حياته بروح تسري بين الناس كحفيف الرياحين؛ فالعم محمد الحسن له الرحمة والمغفرة يعد من جيل الرواد في مجال الفن السوداني ومن مؤسسي أوركسترا الإذاعة السودانية ومن الأوائل الذين وضعوا اللبنات الأولى لمدرسة موسيقى البوليس؛ فعبر مسيرته الطويلة التي امتدت من أوائل الخمسينيات؛ أذاق هذا الموسيقي القامة الفارعة محبي الغناء والموسيقي طعم السعادة؛ بالتعبير عن معاناتهم وتحقيق مبتغاهم على إيقاع المحبة الدؤوب؛ إذ يعد السنجك واحدا من الثروات القومية لوطني المنكوب؛ لأنه أحد مبدعي بلادي المتميزين من حيث الزمان والمهنة؛ فالرجل إن لم يخنِ التعبير كان من المخضرمين، حيث إنه التحق بالعمل بالشرطة قبل الاستقلال في عام (1950) وانخرط فيها برتبة الجندي كفاح ونضال وثابره واجتهد، وأثبت وجوده ومواهبه الفذة حتى وصل إلى رتبة قيادية ألا وهي رتبة (العقيد)؛ لذلك كان الراحل مؤرخا وموثقا جيدا للشرطة باعتباره شاهد عيان للفترة قبل الاستقلال حتى تاريخ نزوله للمعاش في تسعينيات القرن الماضي.
وفي مجال الموسيقى، يعتبر سعادته ايضا من جيل الرواد، إذ إنه عزف مع الكاشف، والتاج مصطفى، وحسن عطية، وعثمان حسين، وابو داوود، وأحمد المصطفى، ورمضان حسن، ومحمد وردي، والكابلي، وسيد خليفة؛ وعلي اللحو … إلخ، والتحق باتحاد الفنانين منذ العام 1951 لذلك ايضا كان يعتبر موثقا ومؤرخا من الطراز للتاريخ الفني والموسيقي في السودان؛ هذا على الصعيد العملي أما على الصعيد الشخصي فقد كافح واجتهد الراحل في تربية أبنائه حتى يخرجهم للمجتمع صالحين نافعين لأنفسهم ولخدمة بلادهم حيث خرج ثلاثة من أميز المهندسين في مجال العمارة والمدنية والكهربائية، وثلاثتهم أصحاب إنجازات واضحة في المجال الهندسي في السودان ودول الخليج؛ وخرج اثنين في المجال القانوني واصبحت لهما لمسات واضحة في ميزان العدالة في الوطن المنكوب والمغلوب على أمره؛ وخرج في مجال المختبرات الطبية والاقتصاد وعلم المكتبات ونظم المعلومات؛ لذلك يعد الراحل أحد أكثر أبناء جيله تأثيرا ونفوذا ومبادرة.
كما كان ايضا صاحب مبادرات واسعة الأثر في خارطة الإبداع السوداني وكان يعد أبا روحيا لاتحاد المهن الموسيقية وللشرطة السودانية؛ فعلى يده خرج العديد من قامات الإبداع في بلادي؛ كان السنجك صاحب شخصية قوية قادرة على العمل في أصعب الظروف؛ فعندما يرتدي بزته العسكرية تجده صارما صاحب قوة وشكيمة؛ وعندما يمسك بالساكسفون تجده صاحب قسمات هادئة ووسيمة يهدي المحبة والسلام بأعذاب الألحان.
وعلى المستوى الإنساني، كان عمي السنجك رجلاً حنوناً؛ له في العطف والفضل مقامات؛ وهو إنسان صاحب مروءة ونجدة، مد للكثيرين يد العون وساعد بأشكال مختلفة لكي تستمر حياتهم بشكل كريم؛ اجتمع حول العم محمد الحسن عدد كبير من الأصدقاء والزملاء والمحبين في جميع المجالات والطبقات فكان له عدد هائل من العلاقات الإنسانية انبنت حوله وبسببه؛ فكان الراحل نسيجاً اجتماعياً ماهراً، وفي قلبه محبه ورغبة دائمة في الاجتماع والالتقاء بالناس، فقد أنني رأيت في منزله العامر الوزير والغفير؛ فالراحل المقيم انا شخصيا أراه رمزا للتسامح والسلام والمحبة والجمال بكل ما قدمه من إبداع ومن زهد شخصي وتواضع ومد يد العون للجميع بدون فرز؛ لذلك اجد نفسي في غاية السعادة والحبور وانا اكتب في سيرة هذا المبدع الملآن بالطهارة وحب الناس والإصرار؛ كان الراحل ايضا مثالاً عالياً لإشارة الأمل وللقوة والصبر والاحتمال وكان بالنسبة لنا نحن ابناؤه رمزا من رموز الشجاعة وشحذ الهمة وعدم الركن؛ واجه المرض قبل عدة سنوات وواجه موت ابنيه حسن وأسامة لهما جميعا الرحمة والمغفرة بقلب مؤمن متقبل لقضاء الله وقدره؛ وواجه هذه الحرب اللعينة بشجاعة نادرة وأصر ألا يخرج من بيته وان يحرس حقه حتى فاضت روحه الطاهرة، وعزاؤنا الوحيد في هذا المصاب الجلل بانه قد مات شهيدا وفي ايام مباركات وفي شهر فضيل، فكل التعازي لنا ولجميع محبيه، لقد فقدنا منحة من الدنيا؛ نسأل الله أن يرحمه رحمة عالية في مقامه الامين وان ينزل السلام على روحه الحنون وان يطيب مثواه؛ كما أسال الله العطف على قلب زوجتي واخوانها وان يجعل لهما مخرجا من الحزن والإصابة؛ اللهم ارحم العم محمد الحسن وأنزل عليه من مزن رحمتك ما يرفع مقامه فالعم محمد الحسن صيغة من صيغ الفراديس ومقامه بين الناس محمود؛ اللهم اجعل ثوبه أمامك ثوب محبة؛ وأجعل تلقيك له تلق المحب العطوف الحنان؛ فقد كان بيننا سيد أرض ورؤية وعمل واجتهاد ومحبة فاجعله في كمالك سيد مقام وفردوس مأجور بما اكتسب وما قدم وأحتسب؛ وصبرنا وأهله ومحبيه وعارفي فضله بقدرتك التي وسعت كل شيء منزلا على الكل الطمأنينة والسكينة والصبر والسلوان وحسن العزاء؛
وفي الختام اقول كمال قال الشاعر :
رحل ضلنا وضرانا ويمينا والله اتشلت؛ رحل سعادتو البيهو كربنا بعد الإله انحلت؛ ورحل السنجك شجرتنا الليلة يمين كم ضلت يارب رضاك بحق نبيك ثم العباد الصلت؛ رحل ابوك يا مولانا لينا دوام تامي الشورة؛ رحل ابو عادل يمين والله دي المسطورة؛ رحل ابوك يا عصام العندو الخلوق جميع يمين مسرورة يارب عفوك ورضاك يوم الصحف منشورة؛ رحل الفارس الأصم المنصور دوام صفو؛ رحل قائد الرسن وأصبح نهارنا ضلام؛ رحل ابو المهندس الاصلوا اليمين فينا همام؛ رحل وانكسر سيفنا الداخرنو للايام يارب من كوثر نبيك شراب والانعام؛