تناولنا في مقالنا السابق ظاهرة تكاثر وتوالد المبادرات والمنابر والتكتلات، والتي تتواجد بذات الملامح والشبه عند القوى المدنية السودانية، وعند قوى المجتمع الدولي والإقليمي المعنية بالأزمة والحرب في البلاد. وقلنا إنها ظاهرة سلبية تتعامل مع الحدث وكأننا لسنا في أجواء الحرب، وبتقاعس يصل حد الجريمة، حيث نسمع منها ضجيجا ولكن لا نرى طحنا، بينما شعب السودان يواجه الدمار والتقتيل.
وحاولنا تفسير هذه الظاهرة وسط القوى المدنية إما بتفشي الأنانية السياسية وتغليب المصلحة الخاصة وعدم المسؤولية عند بعض هذه القوى، أو العجز وقلة الحيلة في مجابهة تعقيدات الواقع وعدم القدرة على تقديم أطروحات وحلول عملية، أو ربما بعض هذه الكتل والمبادرات هي صناعة لدوائر غير سودانية، دولية أو إقليمية، وفي ذلك لطامة كبرى! أما بالنسبة لقوى المجتمع الدولي والإقليمي المعنية بأزمة الحرب، فاستبعدنا العجز وقلة الحيلة في تفسير الظاهرة، ولكن قلنا من الصعب رفض النظرية القائلة بأن بعض الأطراف الخارجية ربما لا ترغب في وقف حرب السودان سريعا وتريد استمرارها لبعض الوقت، وناقشنا ذلك بالتفصيل في مقال سابق. نواصل اليوم الحديث عن الظاهرة وسط القوى المدنية، ونترك القوى الخارجية إلى مقال قادم.
في العام 1989 أكمل السودان عامه الثالث والثلاثين. كان شابا غضا يحلم بالمستقبل الأفضل، عندما انقضت عليه فجأة كتيبة الإنقاذ لتشبعه في الثلاثين عاما التالية من سنوات عمره، ضربا ولكما وتقتيلا، حتى لم يبق من جسده شبر إلا ومسته طعنة سيف أو ضربة رمح. أحكم نظام الإنقاذ قبضته على البلاد بسلاح الطغيان والاستبداد والفساد والإفساد، وكانت النتيجة أن تغذت العصبيات و«تربربت» في مستنقع الشمولية الآسن، وحرّك حجر الطغيان وعنف الدولة دوائر العنف الأخرى، ليزداد خلل المعادلة المختلة اصلا، والتي جاءت ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 لتصححها. ولكن، الأمر المرعب حقا أن ظلت نخبنا السياسية المدنية والعسكرية تتجرع كاسات العجز وضعف الهمة، بينما ناقوس الخطر يواصل الدق وبصوت عال في كل البلاد، إلى أن وقعت الواقعة. السودان اليوم في أمس الحاجة إلى جبهة واسعة ومتماسكة ضد الحرب ومن أجل استعادة مسار الثورة وإنقاذ الوطن، ولكن لا يعقل أن تظل نخبه السياسية بهذا التشرذم والتشظي والذي لن يفشل في بناء هذه الجبهة وحسب، وإنما سيعمق التأزم والفشل.
السودان اليوم في أمس الحاجة إلى جبهة واسعة ومتماسكة ضد الحرب ومن أجل استعادة مسار الثورة وإنقاذ الوطن
وللأسف، هذه الحالة تكررت على مر تجارب فترات الانتقال في السودان، ولعبت دورا رئيسيا في إصابتها في مقتل، مثلما ظلت وقودا لدوران الحلقة الشريرة في البلاد. النخب السودانية دائما ما تتهم بأنها لا تستفيد ولا تتعلم من الأخطاء التي ترتكبها، بل وتكررها، واستمرار التشظي والانقسام الراهن يؤكد هذه الاتهامات. كما أنها متهمة بعمى البصر البصيرة لأنها لا ترى نظرات الشك وعدم الثقة التي يرمقها بها الشارع، مثلما لا ترى الساكنين في الضفة الأخرى، الأكثر تنظيما وتماسكا، والذين ضربت الثورة مصالحهم، يقبعون متربصين ومتحفزين لاستغلال أي سانحة لتصفية الثورة واستعادة فردوسهم المفقود. ولعلنا جميعا ندرك أن الوهم المتشبع بداء المكابرة ورفض الاعتراف بالأخطاء، ويستعذب إلصاق الأخطاء وإلقاء اللوم على الغير، تسبب في انهيار إمبراطوريات كبرى على مر التاريخ، بينما وحدها المنظومة التي تعترف بأخطائها هي التي تستطيع أن تحيا وتتجدد ولديها القدرة على الإصلاح الذاتي.
إن المبادرات والكتل المدنية المتعددة والمتكاثرة يوميا، تتشابه أطروحاتها حد التطابق، مع اختلافات شكلية في اللغة والصياغات، وبعضها في المقدمات والفذلكة التاريخية. فكلها تنادي بوقف الحرب، وبحكم انتقالي مدني لا يشارك فيه العسكر، وبتفكيك نظام الإنقاذ، وبمراجعة وتقويم اتفاقات السلام، وبالعدالة والعدالة الانتقالية، وبإصلاح المنظومة العدلية، وبإصلاح المنظومة الأمنية وحل الميليشيات المسلحة وبناء الجيش المهني الواحد، وبإصلاح الخدمة المدنية، وبإصلاح الحكم المحلي، وبإعادة هيكلة النظام المصرفي وإنقاذ الاقتصاد، وبسياسة خارجية متوازنة، وبالتركيز على قضايا الشباب والمرأة، وبعملية دستورية تأسيسية، وكل ذلك وصولا إلى انتخابات حرة نزيهة،….الخ. الغائب عن كل هذه الأطروحات، الحراك الملموس ليجسدها كخيط رابط بين كل الكتل والمبادرات لتنتظم في منبر موحد أو تنسيقي، لأن بخلاف ذلك، ستظل كل هذه الأطروحات وكأنها مجرد إبراء للذمة أو تسجيل موقف للتاريخ.
ربما تحتاج هذه الكتل والمبادرات إلى ثلاث خطوات رئيسية لتحقيق الوحدة/التنسيق، أولها توحيد المشتركات في الأطروحات، وإدارة نقاش شفاف لتقليل ما بينها من اختلافات. وثانيها، استخلاص رؤية وخارطة طريق، بالتفاصيل وليس مجرد العموميات والشعارات، لمحتوى الحل الممكن لوقف الحرب. وثالثها، التوافق على منبر تنظيمي يضم هذه الكتل والمبادرات، وحدةً أو تنسيقا، يقوم على احترام الاستقلال السياسي والتنظيمي والفكري لكل أطرافه، ولا تغرق هذه الأطراف وتحبس نفسها في جدل عقائدي، أو في ترهات التخوين والنيل من الآخر الحليف، ولا ينحصر نشاطها في العمل الفوقي الصفوي المعزول عن المشاركة الشعبية الواسعة، بل وتتعاطى إيجابا مع ما تطرحه هذه القواعد الشعبية.
شرر كبير وخطير يتهدد بلادنا، ولكنا نضاعف من خطورته بالتشرذم والتشظي والمعادلات الصفرية.
وبصراحة، أى جهد مبذول اليوم لصالح فئة أو أي إنتماء آخر غير الوطن، هو جهد لا أخلاقي وخائن للوطن. ومن هنا تأتي دعوتنا لكسر كل الحواجز المضروبة بين هذه الكتل والمبادرات، لا نشوه مفهوم التحالف أو التنسيق بحديث عن الأوزان والثقل التاريخي، ولا نستخدم «الفيتو» بسبب مواقف سابقة، ولا نحول اختلاف الرأي إلى اتهامات مختلقة، ولا نغض الطرف عن الأخطاء، ولا نمكن أجهزة الاستخبارات ومبتذلي السياسة منا، بل نفكر ونتحرك بهدف أن نهزم الحرب ولا يسقط الوطن. ونحن نمد أيادينا لكل من يوافقنا الرأي، غض النظر عن موقعه الحالي، أو من أين أتى، مادام فتح ذهنه واسعا للمراجعات الكبرى، ومادامت بوصلة ضميره صارت تقوده ضد الحرب واحتراق الوطن.
كاتب سوداني