بعد أن تباينت الرؤى بين قادة الجيش من الإخوانيين، أصبح في حكم المؤكد انقسام القيادة ما بين الضباط المؤيدين لمسار إيقاف الحرب والانخراط في سباق السلام، والآخرين المتشددين في ولائهم لتنظيم الاخوان، الذين يسيرون على درب الإخوان القذة حذو القذة، ويراهنون على مليشيات وكتائب حزبهم البائد، التي دخلت المعركة بانكشاف واضح لوجهها الإرهابي، وافتضاح بائن لممارساتها الداعشية القاطعة للرؤوس والآكلة للحوم البشر، وبما أن العالم بجميع تحالفاته ومحاوره يعمل على محاربة الإرهاب، فإنّ حظ التيارات المتطرفة في مستقبل العملية التفاوضية المؤدية للسلام ضعيف جداً، وهذا ربما ما تنبه له قادة الجيش المراعين لمصلحة البلاد العليا، لذا قد بان الخطان الواضحان لكلا الفريقين، وشهدت منصات الإعلام المخاطبات الصريحة الصادرة من الفريق الداعم لخط التسوية، تلك التصريحات الرافضة لما يسمى بالمقاومة الشعبية، التي أصبحت بوابة لدخول المجرمين وأصحاب السوابق الجنائية، الذين ظهر سلوكهم السالب في شمال أم درمان وقرى الجزيرة بنهبهم لممتلكات المواطنين، والدافع الأكبر لبروز تيار الضباط المناوئين للاستعانة بالحرس الثوري الإيراني، والرافضين للخبراء الأوكرانيين، الدافعين لعجلة غرفة عمليات الجيش التي أصابها العطب، هؤلاء الضباط يعلمون خطورة رهن المؤسسة العسكرية لإمرة جماعات وأحزاب متطرفة عالمياً، ويدركون مغبة خوض معركة أسموها معركة الكرامة بأيدي غير وطنية، مما يدحض صدقية الشعار المرفوع الذي خاطبوا به الشعب، كل هذه الحقائق تدفع بهؤلاء الضباط لأن يلعبوا دوراً مغايراً لتوجهات الإخوان المسلمين، الذين أشعلوا حرباً ظنوا أنهم سينتصرون فيها بمرور بضع سويعات، فخانهم ظنهم فاستمرت لعام وما يزال حبلها على الجرار.
واقع العمليات العسكرية الذي أخرج الجيش من قيادته العامة، وطرد مكوناته المسؤولة من حراسة القصر الجمهوري، ولم يدع للجيش موطئ قدم في عاصمة البلاد الخرطوم – الولاية الرئيسة، التي يكتظ بها ربع سكان البلاد، وأفقد الجيش ولايات غرب السودان، ودفع قائد الفرقة الأولى لأن ينسحب من مدينة ود مدني – عاصمة الولاية المركزية المتحكمة في اقتصاد البلاد، هذا الواقع لابد وان يحرك ساكن بعض الذين ما تزال قلوبهم تنبض بالحس الوطني، ليستدركوا ما تبقي للمؤسسة من ماء للوجه في الولايات التي لم يلحقها التحرير، وكما تقول القاعدة الفقهية (ما لا يدرك كله لا يترك جله)، فإنّ بعض قادة الجيش أدركوا أخيراً خطورة استمراء الانقياد لأوامر الاخوانيين المتخمين في تركيا، وأن التماهي معهم سوف يوصل المؤسسة العسكرية للانهيار الكامل، فالإخوانيون لا يعبئون بكينونة الوطن، ولا يتورعون لإزهاق المزيد من الأرواح، في سبيل إعادة ملكهم الذي نزعه الثائرون في ديسمبر المجيد، فالحرب التي يديرها النفعيون الهائمون على وجوههم في دول الغرب وبلدان الشرق، لن تدوم طويلا، ما لم يقذفوا بفلذات أكبادهم المنعّمين في أتونها، ودائماً ما يكتوي بنار الحرب ومآسيها المقهورون والمحرومون والفقراء والمعدمون، وهؤلاء يمثلون الكتلة الحرجة في معادلة الحرب والسلم، وقد استاؤوا من لا نهائية الموت المجاني، واقتنعوا بأن الحرب التي يمثلون وقودها لابد وأن تضع أوزراها، وآمنوا بحتمية فناءهم لو أنهم مضوا على هذا الدرب الذي يدفعون ثمنه موتاً، مقابل منحهم الحياة للذين نهبوا ثروات البلاد ثم هربوا، وعاشوا على مواردها في بلاد بذل أهلها الغالي والنفيس لكي تنعم بالأمن والسلام، ما يجعل انشقاق قيادة الجيش أمراً متوقعاً مهما راهن المتاجرون بدماء الفقراء على نصر مستحيل.
عندما تدفع ثمن الحرب شرائح اجتماعية موصوفة بالتهميش، يكون انقسام الجيش أمراً محتملاً في أي مرحلة من مراحل الحرب، وقد وضح جلياً في هذه الحرب اللعينة أن الذين أمسكوا بالزناد وماتوا، ودفنوا في مجاري الصرف الصحي وداخل قنوات المزارع، جاؤوا من مناطق بعينها، وحتماً سيدرك هؤلاء المغفلون النافعون خبث من استغفلهم، وسيلحقون بركب الأحرار الذين أرغموا أنف القاهر وأجبروه على الترجل، وفي أيام الحرب هذه التي قاربت على أن تكمل دورتها السنوية، لابد لقيادة الجيش التي ليست على قلب رجل واحد أن تنشق لحزبين، حزب القانعين بعبثية الحرب وعدم جدوى خوضها، والحزب المكابر الذي ليس لرموزه ولد ممسك بمقبض اطلاق النار في الميدان، ومن المؤكد ان الحزب الأول في حال انحيازه لخيار الجلوس للتفاوض بشأن السلام، هو الغالب، لأن أولاده هم الذين اكتووا بنار الحرب، وفي آخر المطاف لن يقيم بهذه البلاد المتخمون الناهبون لثرواتها والسارقون لقوت شعبها، بل سيحرسها ويحرثها الحريصون على أمنها وسلامها، وهذه الحرب لن تدوم كما يتوهم المشعلون لنارها، لسبب بديهي يتمحور حول انعدام الدافع الوطني لمشعليها، فإذا سئل المقاتل المدافع عن شرذمة الفاسدين من منسوبي النظام البائد، لماذا تقاتل من أجل عودة من سرق طعام وكساء ودواء الناس؟، سوف يبهت ويترك البندقية على الأرض ويذهب الى حال سبيله، فمع انعدام المسوغ الأخلاقي لنشوب الصراع تخمد نار الحرب، التي لا دوافع وطنية لاشتعالها، وكما يقول أهلنا في البادية (لا يوجد دواس بدون غبينة)، فالغبن لا وجود له في نفس من اصطف مع من أشعل الحرب.
إسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com