يقول عبد الرحمن الكواكبي (1855-1902م) في مؤلفه الشهير “طبائع الاستبداد” : (الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الإستبداد لا تستحق الحرية.) وقد سبقه في ذات السياق رائد علم الإجتماع ، إبن خلدون بقوله: (الاستبداد يقلب موازين الأخلاق، فيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل.) وهو الشيء الذي أمعن في ممارسته صغار الآلهة عندنا في السودان لأكثر من 32 سنة ، حين سكت أهل الحق في التصدّي للباطل! إنّ 56 عاماً من حكم العسكر في السودان خصماً من 67 سنة هي عمر إستقلال بلادنا قد أغرت عسكر تنظيم الأخوان المسلمين للحلم بالعودة إلى سدة الحكم ولو على جماجم شعب السودان!
قلناها يوم مجزرة الإعتصام بأننا الآن في معسكرين إثنين : معسكر يمثله شعب السودان بكل طوائفه وعشائره.. هذا الشعب المشرئب بأعناقه إلى شمس الحرية ، شعب قام بتفجير ثورة سلمية أدهشت شعوب العالم الحر.. ومعسكر آخر هو معسكر الأخوان المسلمين بكل مسمياتهم التي لا تحصى ، والذي سطا علي سلطة جاءت بإرادة الشعب وعبر صناديق الإقتراع – سطا عليها عبر فوهة البندقية ومستخدماً كل أساليب الكذب والغش بما في ذلك أدعاؤهم في أول بيان لهم بأنهم ممثلو القوات الشعب المسلحة! يعرف أبناء وبنات شعبنا اليوم وبعد مضي 34 سنة على حكم الكيزان أن الكذب عندهم شيئ مباح ما دام لغرض! وأنهم حولوا مقولة الغاية تبرر الوسيلة سيفاً أجتث رقاب بعضهم كما حدث خلال فترة حكمهم الشؤم!
أقول بأننا اليوم ننقسم إلى معسكرين إثنين: شعب السودان الساعي إلى الإنعتاق من الإستبداد بقيادة شبابه الذين هم نصف الحاضر وكل المستقبل.. ومعسكر الكيزان والدواعش والبلابسة، وهم قوة تسبح عكس مجرى التاريخ. والتاريخ لا يعيد نفسه كما يتوهمون وإن شابهت بعض أفعال البشر ، لأنها وإن تشابهت فإنها تأتي في زمان مختلف وفي دورة أخرى من ديناميات التاريخ! يحاول عسكر الكيزان منذ الإنفجار المدوي لثورة 19 ديسمبر 2018 م أن يعيدوا عجلة التاريخ إلى الوراء – بالقضاء على الثورة ، وهو أمر مستحيل. وهنا تحضرني كلمات الثائر الأممي أرنيستو تشي جيفارا: (لا يزال الأغبياء يتصورون أن الثورة قابلة للهزيمة!!)
لو أنّ للحرب الحالية مغزى واحداً يفيد منه شعبنا فإنّ ذاك المغزى يتلخص في أنها أكدت أننا في معسكرين مختلفين: معسكر الأكثرية وهم شعب السودان المسالم الذي أعلن عليه الكيزان الحرب من يوم انقلابهم المشئوم في يونيو 1989 م – شعب السودان الذي يعرف في حواضره وبواديه معنى التعايش ومجالس الصلح والجودية، لأن الحياة عندنا حق مقدس! أما المعسكر الآخر فهو معسكر الكيزان الذي يرفع أنصاره عقيرتهم منادين باستمرار الحرب ولو على جماجم أبناء وبنات شعبنا. ففي عرفهم أنّ من يدعو إلى وقف هذه الحرب عميل وخائن و.. (بتاع سفارات كمان !!) الغريب في الأمر أن هذه الحرب التي أشعلوها – وهي حرب بينهم وبين الدعم السريع الذي كانوا يجرمون من يرفع أصبعاً ضده – عادت عليهم بالساحق والماحق.. كشفت أنّ الجيش الذي حسبه الكثيرون جيش الوطن وحامي حمى البلاد ، ليس سوى شبح تختفي تحت مظلته مليشيات داعشية هي النخبة التي كانوا يدخرونها للسيطرة على مقاليد الحكم حتى تقوم الساعة كما كانوا يتشدقون!
اليوم – والكيزان في أسوأ حالاتهم من الضعف والهزائم – نراهم عادوا إلى لعبة شق الصف : أذهب أنا مفاوضاً في منبر جدة ، وتعلن أنت الحرب على (تقدم) !! نفس لعبة تبادل الأدوار في انقلاب يونيو 1989م : (إذهب أنت إلى القصر رئيساً وأذهب أنا إلى السجن حبيساً!)
إن مشكلة الأخوان المسلمين هي أنهم يحسبون أن نهر التاريخ بإمكانه تكرار مجراه من نفس نقطة البداية متى أعادوا ترتيب مفاصل اللعبة! وقبل يومين طلعت علينا حكومة بورتسودان – عفواً .. أعني حكومة البرهان التي نسى القائمون عليها أن عاصمة السودان إسمها الخرطوم- طلعت علينا بإعلان لما أسموها (اللجنة الوطنية لجرائم الحرب)، وذلك بفتح بلاغات جنائية في قيادات مدنية لا علاقة لها بالحرب البتة. أستأذن القارئ في الإقتباس من مقال طويل للأستاذ احمد البدوي المحامي يقول في ختامه: ( إننا كقانونيين في قمة الأسف أن يصل المستوى القانوني لهذا الدرك السحيق من اللامبالاة في حقوق الناس! النيابةالتي يجب أن تكون (مستقلة) بدلا من (مستغلة) ومع استغلالها هذا كنا ننشد أن يكون وكيل النيابة أقل جهلاً من هذا الجهل الفاضح بأبجديات القانون)!
إنّ فتح البلاغ الأضحوكة ضدّ قادة تنسيقية الجبهة المدنية العريضة (تقدّم ) لهو الدليل أنّ هتاف شباب وشابات الثورة وهم يرددون: مدنياااااااو – هذا الهتاف يرعب أنصار المدافع والمسيرات ، فهو يعلن عن ديمومة اندفاع تيار الثورة التي يسعون لدفنها. أختم مرة أخرى بكلمات الثائر البوليفي الأممي تشي جيفارا: (لا يزال الأغبياء يتصورون أن الثورة قابلة للهزيمة!!)
05/04/2024