(1)
لعل ظاهرة الانقلابات العسكرية العديدة قد استشرت في أنحاء القارة الأفريقية ، منذ سنوات تحرّر بلدانها من ربقة الأنظمة الكولونيالية الاستعماية الغربية التي ظلت تتحكم في أقدارها لسنوات وبعضها لعقود وأكثرها لقرون. ما كان خافياً على دارســي العلــوم الانسانية من الاجتماع والسياسة والانثروبولوجيا الاجتماعية وعلم النفس- وجلّ هذه العلوم قد تطورت خلال القرون المتأخرة – أن تلك التجربة قد وقف وراءها مفكرون قدموا تبريرات وأسانيد رسّختْ مفاهيم مغلوطة عن كون التفاوت أمر طبيعي بين البشر، وبالتالي ساعدت في اســتدامة التجربة الاستعمارية الكولونيالية وشرعنة تلك المفاهيم التي قامت عليها تلك التجربة.
كانت عبارة : “عبء الرجل الأبيض” التي جاءت في قصيـد لـ”روديارد كيبلينج” ، شــاعر بريطانيا الاستعمارية الشهير، هي الصياغة المعبّرة عن التجربة الكولونيالية بكلِّ حمولاتها من استعلاءٍ عنصري وإقرارٍ بالتفاوت بين البشر. لكن لو أجلنا النظر في الذي جرى ويجرى في القارة السمراء من انقلابات عسكرية واضطرابات ســياسية، فإني أرى من غير الحكمة أن نحمّل تلك التجربة كلّ الأوزار وكل تلك الاخفاقات التي تعيشها القارة، ويعيشها السودان الذي كان من أوائل بلدانها التي اسـتقلت جنوبيّ صحرائها. أفصح كاتب ســـوداني حصيف عن التجــرية الكولونيالية في السودان، إذ كتب الباحث في التاريخ الأستاذ حمدالنيل عبدالقادر : (ثمّة علاقة بين الإستعمار من جهة والقومية والدولة والسيادة من جهة أخرى. يصعب بناء دولة حديثة على قومية غير محدّدة المعالم وبالتالي يأتي مفهوم السيادة والوطنية والإحساس بالوطن منقوصاً، لا يحسّ به الأفراد عندما يسلبه منهم المستعمر). مع الإقــرار بسـلبيات التجربة الكولونيالية في السودان ، لربما تفسر تلك العبارة ما حلَّ بالسودان من دمار وإهــلاك للإنسان وللحرث وللزرع، بل ولكلّ مقومات الدولة، فهـل يقع وزر ذلك كله على المستعمر الكولونيالي القديم وحـده. .؟
(2)
ما وقع في السودان تاريخياً ، ووقع أيضاً بدرجات متفاوتة في العديد من البلدان الأفريقية، وربما أيضا في بعض بلدان أمريكا اللاتينية، والقليل من بلــدان القارة الآسـيوية، قــد يدفعـنـا للنظـر بموضوعـية لا تدين التجربة الكولونيالية في شمولها برغم مظلومياتها البائنة، ولعلّ عبارة المفكر الكبير علي مزروعي في أخريات ايامه : “أن الأفـريقي عاجـز عن حكم نفسـه”، لا تبـريء تجربة المستعـمـر الكولونيالي بل تستميلنا لاستصحاب ايجابياتها، لكنها لا تدفعنا كذلك لدمغ قيادات المجموعات السكانية في مجمل تلك البلدان، بالعجز وإدمان فشــلها في حكم بلدانها التي كانت في أســر التجربة الكولونياليـة الاسـتعمارية. ترى هل كان صائبا مزروعي، في طرحه عمّا أسماها الكولونيالية الحميدة..؟
في نظرنا أنّ ثمّة ما يفسر جنوح المفكر الأفريقي المُميز علي مزروعي في طرحه ذاك مسترغباً عودة الاستعمار من جديد للقارة الأفريقية. في الحقيقة أن التجربة الكـولونيالــية الاستعمارية إعتمدت مباديء جاءت من روح ش ـعار المصريين والسّــومريين والإغـــريـق القدماء: “فـرِّق تسُـد”، لتفـريق الأعـداء بغرض الســيطرة علـيهم. لقـد قام أســلوب الحــكم الكولونيالي منذ سنوات القرن التاسع عشر، على ذلك الشــعار الظــالم في إدارة مســتعمــراته بطريقٍ غير مباشر بالإستعانة بالقيادات المحلية في تلك البلدان، فاضعف بذلك مقومات التلاقي والتمازج والتعاون بين مختلف الإثنيات من المجموعات السكانية . شمل ذلك الأسلوب في إدارة
المستعمرات لعديد مستعمراتها في القارة السمراء، ولم يكن السودان استثناءا.
(3)
بعد انقضاء سـنوات الحرب العـالمية الثانية ، ثمّة ســؤال برز إثر ارتفــاع صــوت المستعمَرين (بفتح الميم الثانية) يطالبون المستعمِرين(بكسر الميم الثانية)، بمنحهم حقوق تقرير مصائرهم، فنالت معظم بلدان أفريقيا استقلالها في تلك السنوات الوسيطة من القرن العشرين ، فهل جرت تلك التطورات بعد مراجعة معمّـقة وتقييم حقيقي لمجمل التجارب الكـولـونيالـية الاستعمارية والتي رسَختْ منذ سنوات القرن التاسع عشـر، وما تراجـعت إلا تحت ضغوط حقبة ما عرف بالحرب الباردة . .؟
لو ألقينا نظرا ثاقباً ، سنرى أن الميثاق الذي حوى مباديء تأسيس هيئة الأمم المتحــدة ، وقد كانت بداياته في توافق دول الحلفاء عليه منذ مؤتمر “يالطا”، لم تأخذ صياغته ، سوى نحو شهرينمن عام 1945 ، ليكون المرشد للسلام والأمن الدوليين ويحمي العالم من الوقوع ثالثة في حرب عالمية تقع مستقبلاً.
(4)
هكذا وإن انصبَّ التركيزفي الميثاق الأمـمي على ضوابط تجنيب العـالم ويلات أي حــرب قد تقع مستقبلاً، لكنه لم يتضمن تدارســاً عمـيقاً حول التجربة الكولونيالية ومـآلاتـها ، وإمكانية استدامتها أو إنهـائها، فيما بدأت تتضح معالـم حقبة الحرب الباردة والتصارع بين
قـوتين عظميين تسـيّدتا المشهد الدولي. غير أنه وبعـد وقت وجيز، بات جلياً أنّ هنالـك حاجـة للتوصّل إلى توافقٍ جـديد يضمن السلام والأمن الدوليين، ولابُـدَّ من أن يقوم على مبــادي وقـيـمٍ أكثر رسوخاً وأعمق تجذّرا . وما كان ذلك ممكناً إلا بالركون إلى أهل الفكـر وعـقلاء العالم ، فـتـمّ التـوافـق مُجــدّداً في عام 1947 ، لصياغة مواثيـق جـديدة تســتند أكثر ما تســتند علـى القـيـم الإنســانية جمعـاء ، باستصحاب الأديان السماوية من إسـلام ومسـيحـيــة ويهـوديـــة والعديد من كـريـم المعـتقـدات والمذاهب الفلسفية والفكـر الإنســاني الأشـمـل.
توافـــق ممـثلــو الأمم المتحدة على لجنـة ترأستها الســـيدة “اليانور روزفلــت” قرينة الرئيس الأمريكي الأسبق ، وضمّت مشــاركين من الشرق والغرب، ومن الأغـنياء والفـقـراء، ومن الشمال والجنوب ، جاءوا ممثلـيـن بأكثـر المعـايير اعتمـاداً للضمـير البشـري السّـويّ. عملت تلك اللجنة لنحو عامين كاملين ، فخرجت من جهود أعضائها أجمعين، وفي أكتوبر من عام 1948، شرعة حقوق البشـر، المعروفة بـ”الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”. ولعـــلي أزعم أن إلزامية هذه الشرعة التي أنجزتْ خلال عامين كامليــن ، لأدعى إلزاميــةً من مـيـثاق الأمـم المتحدة نفسه ، ذلك الذي أنجز على مدى شهرين فقط. لو تمّ ذلك ، لما بات الميـثــاق الأممي عرضة لاستخفافٍ وتجاهل، لعجزه عن احتـواء الصراعات والنزاعات والحروب، ثم صار أمراً يثير الشفقة لا السخرية. قـدرات البشر في التعقل والـرّشــد محــدودة وقد يطالـها الباطل من تحتها او من فوقها، وقد يتطلب أمر المستجدات أن يلحق بالميثاق الأممي تعـديلاً أواضافات .
(5)
من تداعيات قصر النظر التاريخـي، تلك الحروبٌ التي تدور رحـاها في عـقـود الألفـية الثالـثــة الماثلـة. في تخوم آسيا وأوربا ، هنالك حـربٌ شـعواء بين روسيا وأوكرانيـــا، وفي السودان وسط القارة السمراء، حـربٌ بين السودانيين أنفسهم وبتحريضٍ من غــرباء مختبئيــن وراء حدود البلاد، بما جعل تلك الحـرب أشبه بالحرب الأهلية الإقليمـــية في حــزام السسودان القديم. أما في قطاع غـزة فإنّ بني صهيون يســومون الفلسطينيين دماراً شــاملاً، بل هو “هولوكوست” مضاعف عشرة مرات من ذلك الذي أذاقهم إياه النازي هتلر.
من ويلات الكولونيالية في اتباعها أساليب حكـمٍ بإدارة محلية غير مباشـرة ، أنْ طويت صفحات استعمارها خلال سنوات الحرب الباردة، تاركة معظم بلدان القارة الأفريقية ترزح تحت عبء ثقيل لملف من قبائل متنافرة وإثنيات وطوائف موزّعة بين بلدان أفريقية عديدة ، رسمتْ حدودها بمطامع وتوافقات سـياسية جزافية بين قوى استعمارية غريبة على القارة. السودان ليس استثناءاً. لك أن تنظر لترى سودان القرن العشرين بعد استقلاله وقد واجه إرثاً كولونيالياً مأزوماً لن يكتب للسودانيين مهما أوتوا من مقدرات لتجاوز تداعياته السالبة . غادر المستعمر وقد خلف وراءه للسودان مشكلة حدودية مع مصر في مثلث حلايب وشلاتين، وأزمة حدودية ثانية في منطقة الفشقة مع اثيوبيا، وأزمة ثالثة مع ليبيا وتشاد حول مثلث “المسارا” الجدودي ، ورابعة حول مثلث “أليمي” في الحدود مع كينيا ، ومثلث آخر خامد مع الكونغو تتقاسمه قبيلة الزاندي ثلثين هنا ثلث هناك. بعد استقلال جنوب السودان ارتحلت الأزمتان الحدوديتان الأخيرتان من السودان إلى دولة جنوب السودان.
من أقدار السودن، أن تشتعل حروبه الداخلية لأسباب تتصل بهذا الإرث الثقيل من المشاكل الحدودية، في شرقه غربه وجنوبه. أما شماله فبقي سليما بحكم التواصل الأعمق بين مصر وإن ظل الخلاف قائما حول حلايب وشلاتين ولم يحسم بعد، إذ نرى شكوى الســودان في أضابير الأمم المتحدة تجدّد كل دورة للأمم المتحدة منذ عام 1958 .
(6)
إن الدعوة الناصحة للسودانيين، هي في إعمالهم النظر ملياً في تاريخ بلادهم ، وفي تاريخ وجغرافيا القارة السمراء ككل ، حتى يتاح لهم إدراك أبعاد الإرث الثقيل الذي خلّـفه الاستعمار الكولونيالي فيها ، والالـتفـات لنعمة التنوّع، إن كتب لهم التشــارك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لاستثمارها .
وليس من المفيد إلقاء اللوم بكامله على تلك التجارب الاستعمارية المريرة، أوتحميل أوزار الفشل والحروب الماثلة لأطراف أخرى، ولكن لهم أن يستكشفوا أبعاد ذلك التنوّع الذي حظي به السودان ، ليروا نعمة الأخوة الإنسانية فيما بينهم ، ويلتفتوا بصادق النوايا لطيّ جراحــات الماضي المثقل بالصراعات والخلافات والمنافسات ، وأن تتلاقى العقــول قبل الأيدي لتخطط وتبـني إطارا لأمّــة ، في بلـــدٍ هو أوّل من نال استقلاله جنوب حزام الصحراء الأفريقية ، وهو من المؤسّسين لمنظمة الوحدة الأفريقية ومن صـــاغوا مواثيقـها وقـد صارت الآن منظــمة “الإتحاد الأفريقي” . للسودان دور لن يتولاه غيره من بلدان القارة ، فهو الصدر ولا ينبغي أن يتذيل دول القـارة السّمراء ، وهو الثري بموارده ولا ينبغي أن يكون أفـقـرها ، وهــو الناجـح بعبقرية موقعه لا أن يكون أكثرها إدماناً للإنقلابات وللفشل السياسي. .