بة الأمينة والصائبة على هذا السؤال، لن يكون بوسع أحد أو جهة انتشال بلدنا من الهوة السحيقة التي انحدر اليها ووضعه على الطريق الصحيح المؤدِّي إلى التعافي والتقدُّم، حتى لو تمّ طرح مئات المُبادرات السياسية وعقد آلاف المؤتمرات واللقاءات التشاورية.
أبدأ بالقول بأنّ ما يُميّز الدولة الحديثة عن نماذج الحكم السابقة المُغايرة لها على مرِّ العصور، هو من جانب، قبولها لفكرة رفض الوصاية على الناس في مسائل الفكر والمُعتقدات والتأمين على حقِّهم في اتِّباع الخيارات التي تناسبهم دون تعدٍّ على حقوق الآخرين. ومن جانب آخر، العمل بشكل من أشكال العقد الاجتماعي الذي يتنازل بموجبه أفراد شعب البلد عن جزء من حريتهم مقابل قيام الدولة بضمان حفظ الأمن والسلم الاجتماعي، وضمان حلِّ النزاعات التي تنشأ بين الناس أو بينهم وبين الدولة ذاتها بموجب القوانين المُعتمدة في البلد.
من هذه الناحية، فإن الفعل الاستعماري ألحق بدون شكّ تشويهاً بالغاً بمفهوم الدولة الحديثة، حيث مثّل الغزو نفسه نموذجاً فجّاً من نماذج الوصاية وانتهاك الحقوق. ومع ذلك، فقد نجح المُستعمِر، بمقياس الحدِّ الأدنى على الأقلِّ، في ذلك الجانب من ركائز الدولة الحديثة المُتعلِّق بالمحافظة على توفير الأمن والسلم الاجتماعي وحلّ النزاعات وفقاً للقوانين التي سنّها. ولم يأتِ هذا الأمر نتيجة للمنطلقات والدوافع الإنسانية لدى المُستعمِر بقدر ما جاء وَفقاً لمقتضيات الحسابات الباردة التي تُشير إلى أنّ تحقيق الفائدة القصوى للمُستعمِر تقتضي توفير حدٍّ أدنى من مُتطلبات العيش الطبيعي لشعب البلد المُستعمِر. يُمكِن لمن يريد بالطبع أن يطلق على هذا المسلك “نهج الافتراس المُنضبط ” الذي يتوخّى عدم الإجهاز على “الدجاجة التي تبيض”.
كان بإمكان الحكم الوطني أن يبني على المُفيد الذي خلّفه المُستعمِر ويعمل على تحسينه كما حدث في عدد من الدول المُستعمَرة الأخرى، ولكِنّ هذا ما لم يحدث عندنا. والسبب الرئيس في ذلك، أنّه بينا قبلت النُخب الحاكمة المتعاقبة عندنا صيغة الدولة الحديثة، فقط من الناحية الشكليّة، بسلامها الجمهوري ومصرفها المركزي وعملتها الوطنية وتمثيلها الدبلوماسي في الخارج وهلُمَّ جَرّا، إلا أنّها لم تقبل، ولا أقول لم تستوعب تماماً، رغم أن هذا واردٌ أيضاً، مفهوم الدولة الحديثة المذكور أعلاه. فبدون اضطلاع نظام الحكم ونجاحه في مُهِمّة توفير الأمن والسلم الاجتماعي، وحلّ النزاعات، خاصة تلك التي تنشأ بين الناس والسلطة الحاكمة، بالطرق السلمية وفقا لقوانين مُقرّ بها وليس عن طريق البندقية، لا يُمكِن الحديث عن وجود الدولة بالمعنى الحديث إلا مجازاً. وعندما يُضاف إلى ذلك تبعات ثقافة وممارسات الوصاية المُتعدِّدة المستويات على الناس، فإن إطلاق مُسمّى الدولة نفسه عليها يصبح أمراً بلا معنى.
لا ينبغي في هذا المجال، أن نكتفي بإلقاء اللوم، على الأداء البائس، على النُخب العسكرية والمدنية التي تولّت الحكم، ومعها تلك التي تصدّرت بدرجات مُتفاوتة في تأثيرها المشهد العامّ السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بل علينا أن نذهب إلى مستوى أعمق في التحليل يستجلي الخلفية والعوامل الأساسية التي تُفسّر فشل هذه النُخب.
في اعتقادي في هذا الصدد، أنَّ نموذج الدولة الحديثة سواء أكان ذلك على المستوى الضيِّق الذي أتى به المُستعمِر، أم على المستوى الإنساني الأكثر رحابة الذي يُمكِن أن يُستشفّ من أفكار رموز التنوير كجون لوك وفولتير وروسو وإيمانويل كانط، أم حتى على مستوى ثالث بديل كان يُمكِن مثلاً أن ينبثق من أفكار وكتابات سودانية تستصحب أفضل عناصره وتوطنها في بلادنا، قد خسر الجولة بفارق كبير لصالح نموذج مُمارسة السُلطة الذي كان سائداً قبل قدوم المُستعمِر. ويوضح ذلك بلا ريب تجذّر النموذج القديم وسطوته وعنفوانه، وقوّة الوسائل والأدوات المتاحة له لهزيمة المحاولات الرامية إلى تغييره.
يستند هذا النموذج القديم على ركيزتين، أولاهما، رؤية مُعيّنة للحياة قائمة على تفسير تاريخي للموروثات والمُعتقدات يقرّ نهج الوصاية على الناس، ويمنح الحاكم سُلطة غير مُقيَّدة برقابة مؤسسية تستحقّ الذكر، فإن شاء ترفّق في إدارة شؤون البلد وأصلح، وإن شاء أمعن في الشطط. والأخرى، الاستقواء بالقبيلة التي ينتمي لها الشخص حاكماً أو فرداً وبالقبائل القريبة لها والمناصرة لها في وجه الآخر المختلف من أقوام البلد. ولأنّ مفهوم القبيلة نفسه يقوم في جوهره على شعور بالتميّز على من هُم خارجها وبازدراء مُتفاوِت لهم تحدِّده طبيعة العلاقة القائمة معهم، فسينجم عنه لا محالة تراتبيّة خطرة يرسم معالمها ودرجاتها في أيّ لحظة تاريخية مُعيّنة مَنْ لهم الغلبة. كما أنّ له ذيول ثقافية لا يُمكن الاستهانة بخطرها، وهي تلك التي تدفع الناس إلى تصديق الأخبار الواردة من الرُواة الذين يعرفون انتماءهم، ومعاملة الميول والآراء الصادرة مِمَنْ يشعرون بالانتماء إليهم معاملة الحقائق التي لا تحتاج إلى برهان. ومثل هذا الوضع لوحده في بلد شديد التنوّع مُتعدِّد القبائل، كفيل بتحويله إلى حقل ألغام قابل للانفجار في وجه الجميع عندما يُسيء البعض الحسابات والتقدير بدرجة كبيرة.
ولا يعني هذا بالطبع أن هناك اجماعاً في السودان على هذا النموذج القديم، فقد تصدّى له البعض، ومنهم من دفع حياته ثمناً لمواقفه في معارضته، ولكِنّ هذه المعارضة الشجاعة للأسف بقيت حتى الآن محدودة الأثر والنتائج.
من المفهوم لديَّ تماماً، أن البعض قد يعترض على الاشارة إلى دور القبلية وثقافتها الضار فيما آل اليه الحال في بلد مُتعدِّد القبائل، فكثيراً ما سمعت من أصدقاء أعزاء وأشخاص أفاضل كُثر إنّه لم يكن لهم، في الزمن “الجميل” الذي مضى، اهتمام أو حتى معرفة بالأصول القبلية لزملائهم في الدراسة والعمل. وقد يكون أكثر هذا صحيحاً، ولكِنّ المشكلة في العقلية القبلية أنّها إذا لم تستبدل بعقلية منافية لها تحدِث قطيعة مفهومية معها فستبقى كامنة في دواخل الفرد حتى إن كان لا يحسّ بوجودها. والدليل المُحزن على ذلك، أنّ معظم المثقفين الآن، دعْ عنك الناس العاديين، تستطيع تحديد موقفهم من الحرب المُدمِّرة الدائرة إذا كُنت على معرفة بخلفياتهم القبلية والإثنية. من الصحيح أن هناك الكثيرين الذين أعلنوا في وقت من الأوقات اعتراضهم على الجانبين، ولكِن إذا غصت أكثر وأجدت قراءة ما بين السطور، فقد تجد في مستوى ما تحيّزاً أملته الخلفية القبلية أو الإثنية للفرد المعني. كم كان سيصبح رائعاً ونبيلاً لو وجدنا أمثلة واضحة تحمل شجْباً لا لبس فيه من جانب أحد المثقفين المعروفين الكبار لتجاوزات المجموعة القبلية أو الإثنية التي يُصنّف ضمنها. هل من حاجة في هذا السياق إلى التذكير بمجاهرة عدد من المثقفين اليهود، قد لا يكون كبيراً ولكِنّه ملحوظ، بإدانة جرائم الحرب الخطيرة التي تقوم بها قوات الاحتلال الاسرائيلي في المقتلة الدائرة في غزة والضفة الغربية المحتلة؟
ما تقدّم ليس دعوة لليأس، فهناك رغم السحب الداكنة شعاع لا يمكن حجبه صادر عن ثورة ديسمبر المجيدة بشعاراتها الثلاثة: الحُرِّيّة والسلام والعدالة. فالحُرِّيّة عندما تتحقّق هي نهاية الوصاية، والسلام هو أرضية الحلّ العقلاني للمشاكل في بلد متنوِّع بالمفاوضات، والعدالة هي تمتّع الجميع بنفس الحقوق وردِّ المظالم. بالطبع، فإنّ الشعارات لوحدها مهما بلغت درجة نبلها وسدادها لن تغيّر الحال الرديء. لا بُدّ للسودانيين أو قُل معظمهم من الانخراط في العملية الشاقة اللازمة لإجراء قطيعة معرفية تؤدي إلى نبذ عقلية القبلية ونبذ ثقافة العنف ومناخ الكراهية وهي الظواهر التي نرى تجلياتها الآن حولنا بكلِّ بشاعتها.
وفي الختام، لربما تكون هذه الحرب المُدمِّرة فرصتنا الأخيرة لإلقاء نظرة عميقة وناقدة لأنفسنا تدفعنا إلى خلع جلباب المُباهاة الذي يصعب على الشخص السوداني خاصة المُتعلِّم مقاومة إغرائه، ونتوقّف عن ترديد المزاعم الطويلة بأنّنا من طوّر دول الخليج، وأن علماءنا يسهمون حالياً في تطوير أمريكا وأوروبا. نعم، قد يكون من بيننا من قدّم قدراً صغيراً أو كبيراً من المساهمة كما قدّمها أناس آخرون بعضهم من دول سيصعب عليك ايجادها في الخريطة. نحن بشر مثل غيرنا، يجوز أن نكون أحياناً أحسن قليلاً أو أسوأ قليلاً من غيرنا، ليس أكثر. المواهب موزعة على الخلق في المناطق المختلفة من هذا العالم بنفس النسب تقريباً، والأمر المُهمِّ حقيقة هو خلق الظروف المناسبة لتمكينها من الخلق والإبداع.
ذكر أحد شُرّاح المتنبي في معرض تناوله لبيتي الشاعر:
أَقَراراً أَلَذَّ فَوقَ شَرارٍ وَمَراماً أَبغي وَظُلمي يُرامُ
دونَ أَن يَشرَقُ الحِجازُ وَنَجدٌ وَالعِراقانِ بِالقَنا وَالشَآمُ
حول المعنى الذي قصده الشاعر بأن تغص المواضع المذكورة بالرماح وتملأ بالخيل والرجال لمقاتلة الملوك أنّ:” هذا من حماقته المعروفة ولا بُدّ له في كلِّ قصيدة من هذا.” قد تغفر القُدرة الفذّة على صياغة الشعر الخالد لأبي الطيب، بجانب طبيعة ثقافة و”محدودية” معارف عصره ما اتهمه به هذا الشارح من الحماقة. ولكِن ما الذي يغفر لنا نحن كلّ هذا التباهي في زمننا الشاحب وقد انحدرت بلادنا أمام أنظارنا إلى درك سحيق؟
محمد حامد الحاج
melhaj@gmail.com