الحق، والحق أقول، لا أدري ما سر هذا العنوان، فهو غريب حتى عندي، ولا أدري لم جسًّمت الذاكرة وصنعت لها جداراً..!! وعلى أية حال فإن لفظة الخربشة تذكرنا ما تفعله أظافر القط من آثار .
مشكلتي أن بيني وبين القطط ود مفقود منذ طفولتي، ومن عجب أن غالب كوابيسي قطط سوداء تخربشني فاتقيها بالبطانية، فاستغيث صائحاً بمن حولي بلا جدوى. تبّاً لها من حيوان يسمونها مجازاً بالأليف.. بل ألِفت أن لا أواصل طعامي إن جاءتني ( تحكحك ) في ساقي، دعك من أن تخربش، عندئذٍ سأعدها مناوشات حربية، وكلما شاءت الأقدار أن أدرس قصيدة أبي الطيب في مدح بدر بن عمار ووصفه للأسد الذي قتله، لا أجد أمامي غير صورة قط شرس، يقول:
ألْقى فريستَهُ وبرْبرَ دونَها وقرُبْتَ قُرْباً خالَهُ تطْفيلا
ما زالَ يَجمَعُ نَفسَهُ في زَورِهِ حَتّى حَسِبتَ العَرضَ مِنهُ الطولا
ومن رأى قطاً وهو يفترس الفأر، تأكد أنه والأسد من فصيلة واحدة، وما سارت أمامي قطة عم إدريس في أُبَّهة ووقار، إلا توعدتها سراً أن أرميها بحجر، والعجب أنها كانت تعرف متى يشرب عمي الشاي، فتأتي في خيلاء وتجلس أمامه متربعاً، فيطعمها ويسقيها؛ فتتجه إلى أقرب( حِتَّة ) باردة، وتروح في سُبات عميق.
في خواطري هذه لا أريد أن أشبه نفسي بالقطط، ولكني أريد بها استفزاز ذاكرتي قبل أن تمحو ما عليها، أو يضربها فايروس النسيان. وفي ظني أن مصفوفات الذاكرة كالبريد الالكتروني، ما تقادم من رسائله لا تجد له أثراً، بل هي أشبه بالأرانب البرية، عليك أن تصبر عليها حتى تصطادها، إنّها لا تجري منك حتى تختفي، بل تبعد عنك كلما تقدمت إليها بمقدار؛ وكأنّها تستفزك.. وفي التنزيل صورة الذي ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ إنه يزيد من عطش الظمآن.. وللسبب نفسه يلجأ العسكر مع المجندين في الإدارة الداخلية فيأتون بالمياه الباردة، فيحسبونها جلبت لهم، فإذا بالعسكر يصبونها أمامهم ليحرقوا أعصابهم!!
يجتاحني أحياناً حنين لمراجعة أوراقي القديمة، أشيائي القديمة، فأقلب فيها، أتمعنها، أسرح مع بعضها بعيداً، وقد أنسى أحياناً ما أفعل، وأقبل على ما حرَّك وجداني، وأنفعل به تماماً، وقد أتحدث مع نفسي بصوت فوق الهمس، ودون السر: يا سلام!.. أيام!.. دنيا!.. ويعتريني قدر من الأحاسيس أمام بعض هذه الأشياء ما فما أجمل الذكرى! إننا حين التذكر ننسى ما أحاط بحدث الذكرى من مواقف، إنها لحظات تمتِّعنا، تنسينا ما نعيش من لحظات الآن، فهي مصحوبة غالباً بالمعاناة والألم، أو هكذا نظن .ولكنها عندما تتحول غداً إلى ذكرى سنحنُّ إليها، سنقف في محطتها مبهورين بانفعالاتنا.
عندما نحاول بعثرة أحداث الماضي، ونعيد نظرنا فيها لا نكاد نستطيع إعادة تصنيفها من جديد لأنها أصبحت جزءاً منّا ولا يمكننا الاستغناء عنها. هذا الماضي هو الذي يشكِّل تاريخنا، يشكل مزاجنا، يرتب إيقاعاتنا، وانسجامنا بأنفسنا؛ فإنسان بلا ذكريات، هو إنسان ضائع؛ لأنه إنسان بلا ماض، بلا تاريخ، وكلما اجتررنا الذكريات كلما منحنا حياة جديدة، نغمة جديدة.. إن الذكريات ملفات لابد من تحديثها وترتيبها، ويوم أن تفقد هذه الملفات تفقد نفسك، هويتك، ومع ذلك تتناقص أوراقنا يوماً بعد يوم. لا يهم في ذكرياتنا هل هي عن أحزان قاسية أم أفراح رائعة، فهي مهما كانت لا تكشف إلا ماضينا، ولا مهرب من ماضينا، ولهذا نتعايش معه، نقبله على علاته. وهل يستطيع أحد أن يغير تاريخه !!
إن كل فرح نصيبه يسعدنا، ويلون حياتنا بهجة وحبوراً، وإن كان غالبنا يشعر بأنه سريع الزوال، بخلاف ما يعيشه من أسىً إن مرت به لحظة حزن.. قد تؤلمنا، وتنخر في أعماقنا، وتبقى آثارها في وجداننا، وكلما تذكرناها أو خطرت ببالنا عكرت مزاجنا، وأقلقت منامنا.
صحيح إن المصائب على النفس قاسية، ولا شك أنها تهزنا، وقد يصدر بإرادتنا أو بغيرها آهات وشكوى؛ فإننا بشر، وليس غريبا أن تزوغ الأبصار إن اشتدت المصيبة، ويعظم حجم ابتلائنا، ويصيبنا ما يصيبنا، فنفقد كل شيء : أمننا واستقرارنا وما جمعناه بشق الأنفس من ممتلكاتنا ودورنا؛ فنألم كما يألم غيرنا، حين يقسو بعضنا على بعض جشعاً وتكالباً على عرض زائل.. كيف لنا أن نستقبل غدنا !!، كيف لنا أن ننسى ما أصابنا من زلازل الفزع !! وما أريق من دماء عزيزة علينا.. ومن نهب وانتهاك للأعراض وابتزاز .. وما أصابنا من انكسار وهوان في مهاجرنا وما كوتنا من نظرات الشفقة وأسئلة الاشفاق الزائفة ..
علينا مع كل هذا الألم والحسرة أن ندرك أن ما أصابنا ابتلاء، وأن عين الله ورحمته كفيلة بأن ترعانا.. وبيده تعالى أن تمضي سفينتنا في خير، حتى ترسو إلى بر الأمان.. وأن مآلنا أن نفرح غداً ونكبِّر حقاً لله القوي العادل .. وحين تهاجمنا أهازيج الفرح من كل حدب.. وتعود قوافلنا إلى مرابعنا؛ حُق لنا أن نصلي حمداً لله وشكراً..
عفواً إذ تعدت الخربشة ظاهر البشرة إلى قلوبنا فأدمتها ، وأصابتها ، وتركت آثارها غائرة وحفرت فيها عميقاً .. فأنستنا من أجل الوطن كل فرح أسعدنا ..