خلال الأيام الماضية حدثت تطورات مفجعة وخطيرة بمدينة كادوقلي الجميلة بجنوب كردفان حيث أغتيل واقفاً بغدر الأنصاري القيادي اجتماعياً وسياسياً حمدان على الجلة البولاد ، وكيل أمارة دار جامع / الحوازمة في منزله بحي “كلمو” الثامنة مساء وسُجل بلاغاً ويجري التحري بحثاً عن الجاني المجهول.
بعد يومين أو ثلاثة أيام ، تكرر ذات الحدث أيضاً بإغتيال الشاب سليمان سند الشين إبن أمير إحدي أمارات الحوازمة بكادوقلي أمام منزله في ذات الحي والناس يؤدون صلاة العشاء في المسجد. مما حدا بالبعض تسمية هذه الأحداث بمخطط ” حوازمة جينوسايد”. فهل فعلاً هناك مخطط شر بهذا الغرض والمعنى؟. في مثل هذه الظروف تتصاعد وتنتشر الإشاعات في الأسافير، لتنسج روايات ترسم دراما وتصور بانوراما الحدث بسيناريوهات متعددة، يتم إخراجها حسب الهوى والمقاصد للأسف .
لقد ظهرت أول الروايات بحيثيات أن هناك تهديدات سابقة من جهة ما علنا تقول بأنها لن تسمح بأن تتجول طواقي أنصار حزب الأمة بأمان في مدينة كادوقلي وللسلامة عليهم إخفاء هذه الطواقي وعدم لبسها. لهذا يؤكد البعض بأن مسلسل الاغتيالات متوقع وقادم وهذه بداياته. ثم قال بعض الرواة ممن عد نفسه شاهد عيان لحادث إغتيال الأمير البولاد، بأنه شاهد قبل وقوعه بلحظات أثنين من العسكر وعلى موتر يحومون حول بيت الشهيد.
رواية أخرى تقول أن مثل هذه الصناعات من القتل تشبه الدعم السريع وأخرى ترجح إنها من ممارسات الحركة الشعبية. وفي رأي أن هذه الرواية لم تقدم حيثيات مقنعة. فكلا الجهتين لا تعرف مثل هذه الممارسات وتحكمها عقيدة سودان قومي جديد ينعم بمواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، وإن أختلفتا في التفاصيل فهما يقاتلان في تفاصيل الدولة المركزية وليس الأفراد الغُبش وإن حربهما مفتوحة ضد خصم محدد .إضافة إلى ذلك فإن جغرافيا مكانهما بعيدة كل البعد عن موقع هذه الأحداث ، الذي يخضع لرقابة صارمة لا تسمح بالاختراق لتنفيذ مثل هذا العمليات إذا افترضنا صحة الاتهام.
أيضاً حملت الإشاعات في الأسافير إتهاماً إلى ميليشيات متطرفة تتعاون مع استخبارات الجيش والأمن ويقال أنها أقوى الاتهامات. مع تعدد هذه السيناريوهات، ذهب البعض بعيداً ليقول أنها تارات متبادلة بين الحوازمة والنوبة ودليلهم في ذلك خطاب الكراهية والعنصرية المتصاعد الذي نقرأه في العديد من البيانات وفي ذلك أيضاً نقول كذباً كاذب، نعم الضحايا حوازمة لكن النوبة لا يغدرون.
لقد أضافت هذه الإغتيالات عمقاً وتحدياً جديداً لأزمة التعايش الاجتماعي السلمي لمكونات كادوقلي السكانية التي غالبيتها من النوبة والحوازمة وآخرين أصيلين في المنطقة. لقد حزنت جداً لما حدث في كادوقلي التي ، وأعرف كيف كان الناس يتعايشون فيها بلا حواجز متداخلين أجتماعياً، إنها من المستجدات الجديدة السالبة. وحزني أكبر لأننا في زمن لن تكشف التحقيقات عن هؤلاء الجاناة ، لتبرئة مجتمع هو بعيد عن هذه الجرائم المستجدة ، وذلك لكون التحقيقات التي تمت من قبل في جرائم مماثلة ظلت محفوظة في خزانات الأسرار.
قلت في عنوان المقال إن النوبة والبقارة لا يغدرون ولا يخونون إستبعاداً لإحتمالية أن المسألة تارات وتصفيات بين النوبة والحوازمة، ذلك الثنائي قد تجاوز مثل هذه التحديات منذ زمن بعيد وتعايشوا لقرون في سلام . صحيح أن بداية العلاقة بينهما كانت على أسنة الرماح وهذه بدايات طبيعية معروفة في التاريخ و تحدث عادة عند التقابل والتداخل بين أي مكونات إجتماعية، لكن سرعان ما تم التفاهم عبر تحالفات نظمت العلاقة. فكان حلف الدم وغيره من الأحلاف. وكان السفير المتجول شيخ الدرب الذي كانت مهمته التسديد والمقاربة في خلافات المكونات الاجتماعية. فتراضى الطرفان مبكراً على سيادة النوبة على محيطهم الحيوي الجبل وسفوحه، بينما البقارة كانوا انتشاراً قي السهول. وحافظ الطرفان وقدسوا هذه الأحلاف بقوة ” السبر والكجور ” لدى النوبة والقسم على الكتاب الذي مضمونه القران للبقارة. ورغم موضوعية الاتفاق في زمانه في أن يتمتع النوبة وبخصوصية وحصرية تامة لجزئية من الأرض مع حق المشاركة في الجزئية الثانية وهي السهل. لكن جاء من كان يرى أنها قسمة ضيزى ورفع شعار أن كل الأرض للنوبة وليعود الآخر إلى حيث جاء، مما أشعل وسيشعل المزيد من الاحتراب .. الحرب لعينة ليس فيها إلا الدماء والدمار والدوموع والشتات ومن يكسبها أيضاً خاسر. نعم أنك تستطيع أن تشعل الحرب لكن من الصعوبة إطفاء نارها متى شئت لهذا يرفض العقلاء والحكماء إشعالها من الأساس.
إذاً لماذا تحدث إغتيالات الغدر والخيانة، ونحن نقول أن الغدر والخيانة ليست من صفات ثنائي البقارة والنوبة. في رأي أنه انحدار القيم والفضائل، حيث خربت أخلاق ذلك البدوي الصادق والبدائي النبيل،التي كانت مرجعيتها ذلك الشيخ الوقور / والمك الحكيم، المتسلحين بتجارب تراكمية موروثة عززتها شرائع ومعتقدات كريمة. فلا المصالح ولا الدين يوجبان الاقتتال. وألم يقول نص الاية القرآنية الكريمة “لو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين “الآية ( 99) سورة يونس. ومن ثم فلم إعلان الجهاد مثلاً ضد مواطن في بلده أي كان معتقده باعتباره كافراَ؟ ولماذا ليس الهتاف الملائكي في ترانيم أهل الكتاب المسيحيين “المجد لله في الاعالي .. وللأرض السلام .. وبالناس المسرة، لأن الله قدًم للعالم البشارة السارة التي زفها للعالم”. فلو تعاهدنا على التخلق بروح السلام وتثبيته على الأرض لأجتمع الناس على أخلاق دين ورسالة الخاتم الامين وكريم القيم ومشى السلام بإطمئنان بين البشر..
الخلاصة أن ما نعيشه اليوم هو التعسف في تفسير تعاليمنا ومعتقداتنا السمحة أيي كان مصدرها. وبفهم مطلق فنحن نؤمن أنه لا إكراه في الدين أو المعتقد . فاذا شبع الناس وعاشوا في استقرار وأمان لسهل عليهم معرفة الله الواحد الأحد. ودوننا قصة ذو القرنين الذي هبط الى قبائل بدائية لا يفقهون قولاً ولا يجيدون صناعة، حفاة عراة أتخذوا الجحور منازل. وعلى الفور باشر ذو القرنين في تعليمهم مختلف المهن والصناعات. فأشار اليه أحد القادة الدينيين قائلاً ” ألا ندعوهم أولاً لعبادة الله الواحد القهار حتى لا نصنع الخير في غير أهله”. فكان رد ذو القرنين ” فلنسترعورتهم ونشبع بطونهم وبعدها نتحدث في هذا الامر “. فمكث ذو القرنين فيهم سنيناً يعلمهم شتى أنواع المعرفة والمهن والصناعات. والنتيجة في نهاية الأمر عندما هم بالرحيل عنهم جاءوا يطالبون ببقائه وأن يعلمهم الدين الذي يتبع ليعملوا به. فالتفت الى ذلك القائد الديني وقال له ” دع أخلاقك وسلوكك تتحدث عنك”. القصة هي رواية مرسلة ولكن ما يهمني ويمكن الإعتبار والاقتداء بهه هو المنهج وأهمية التعليم والمعرفة. فهو ليس منهج جماعات دأبوا اعلى الإحتفال بتكفير وقتل وتعذيب والتمثيل بالآخر الديني أو في المعتقد أو الرأي.
في وطن متنوع في كل شئ ، دينياً وأثنياً وثقافياً، علينا أن نركز على ماجاء ء في الأية الكريمة ” لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إنا الينا ايابهم ثم أنا علينا حسابهم “الايات (21 -26) سورة الغاشية.. طالما الامر بيد المسلمين ،وسيرضى الآخر الديني والثقافي بذلك إذا ما تراضينا على مشتركات تجمع بيننا ، ومعالجة الخلاف في المعاملات وفق قانون صارم قائم على العدالة والمساواة والتحرر من إستعباد الانسان لأخيه الإنسان في شتى الأشكال. . فالآية الكريمة تقول حتى أن مساءلة الُكافر وعذابه تُرك لله وليس في يد البشر. و ذلك يعني أن لا يكون الحساب أو العذاب فيما لله من إختصاصنا نحن البشر.
نعم إن ما يحدث وحدث في السودان هو خُبث السياسة والغيرة والحسد والتنافس في تحقيق المصالح والمكاسب وعلى قاعدة الغاية تبرر الوسيلة. وأُكرر نعم أن النوبة والبقارة لا يغدرون ولا يخونون العهد.
ختاماً لابد لي أن اترحم على ضحايا هذه الحرب اللعينة التي تضرر منها كل الوطن، وإن ماحدث في الأُبيض وجبل كردفان وأم روابة في الأُسبوع الماضي للأسف كان قاسياً وضحاياه في الطرفين هم أبناء الأُسر من الغُبش الذين يسوقهم أُمراء الحُروب الى المحارق. بينما نأوا هم باولادهم آمنين يدرسون في جامعات ماليزيا وتركيا ورواندا ، وهناك يتغنون بأناشيد “براءون يا رسول الله ” في القاعات الفارهة ويأكلون أطايب الطعام وينتظرون أن يحترق الوطن على آخره فيهبطون من كوكبهم ليستمتعوا بموارده المدفونة والمكشوفة. لكن هل علموا أن الراي العام بعد حرب 15/ ابريل قد تحول وأصبح الراعي والمزارع واعي بحقوقه وواجباته وكيف يحكم السودان لا من يحكمه. بل الحكم لمن يوفر لهم الطعام والإستقراروالعدالة. اللهم أرحم وأغفر لمن قتل أو مات محسوراً في هذه الحرب وعليك يا رب بمن أشعل الحرب وسعًر نارها وهو يهتف ليس هناك أرجل منا وسنحسمها في ساعت ،اسبوع، فشهر والآن دخلت عامها الثاني والناس يُحرقون أحياءً، والرؤوس تقطع ويلعبون بها والاحشاء تمزق وتؤكل في منظر بشع، مع الاستمرار في وضع العراقيل لمن يسعى لوقف الحرب والجنوح الى السلم.. اللهم أنصر الحق عاجلاً غير آجل وقد تساءل المؤمنون متى هذا النصر … إنه لقريب بإذن الله.