أي حزب هو طليعة طبقة أو فئات اجتماعية. وادعاء حزب بأنه يمثل جميع الطبقات أو ادعاء حزب آخر بأنه لا يمثل مصالح أي طبقة، وأنه ليس “طليعة” لأحد هو من أشكال الدجل السياسي.
وأي حزب هدفه الوصول إلى الحكم. وتسعى الأحزاب السياسية إلى حشد الجماهير حول برامجها التي تناضل من أجلها قبل الوصول للحكم من خلال الائتلافات أو بالضغوط الشعبية التي تلتف حول بعض نقاط برنامج حزب أو آخر “معارض أو خارج السلطة” يتسق مع مصالحها.. وكل ذلك من البديهيات.
الصراع حول السلطة
استمرار الصراع حول سلطة الحكم في السودان منذ 1956م والعمل على “قيادة الجماهير” من الأمور العادية. ومعلوم أن الانقلابات العسكرية والمضادة سادت كوسيلة للوصول إلى الحكم بين دول العالم الثالث أو الدول النامية أو “المستعمرات السابقة” حيث لم تترسخ الديمقراطية في تلك الدول.
ومن جهة أخرى، فإن صراع القطبين في حقبة الحرب الباردة شجع أو صنع انقلابات أو بذل لها الحماية أو أجهضها بحسب مصالح كل قطب، والصراع حول مناطق النفوذ؛ ولذلك كان لأجهزة المخابرات دور متعاظم وانقلاب 25 مايو 1969م ومراحله، حتى 22 يوليو 1971م لن يكون هو الاستثناء.
وكما وجدت الانقلابات العسكرية، كانت هناك أيضاً “الانقلابات المدنية” ونموذجنا في السودان ما حدث في 1968م عندما قرر مجلس السيادة “رأس الدولة” حل البرلمان، وهو في طريقه نحو الانعقاد، والعمل على إجراء انتخابات جديدة بنظام انتخابي جديد يرسخ السلطة لفئات اجتماعية مثلتها “حكومة الأحزاب المؤتلفة”.
فكيف واجه الحزب الشيوعي السوداني ذلك الانقلاب المدني؟ وكيف وظفت المخابرات الدولية والإقليمية صراعات الساحة السياسية السودانية لصالحها؟ ولماذا رفض الحزب الشيوعي “المكتب السياسي – تيار عبدالخالق” الاشتراك في انقلاب 25 مايو 1969م؟ ولماذا أقام الحزب الشيوعي تنظيمات حزبية بين الضباط والصف والجنود؟ وماهي أسباب مطاردة انقلابيي مايو للحزب الشيوعي للاشتراك في انقلاب 25 مايو؟ ولماذا قام الانقلابيون بتعيين شيوعيين في مجلس الثورة والوزراء حتى بعد رفضهم الاشتراك في الانقلاب؟ وماهي القواعد الأساسية لنجاح الانقلابات العسكرية؟ وهل كانت 19 يوليو انقلاباً عسكرياً؟
اتحاد القوى الاشتراكية
بدأت تتسارع إجراءات انتخابات رئاسة الجمهورية مطلع 1969م. وكان حلف “الدستور الإسلامي والجمهورية الرئاسية” دعوة صريحة للديكتاتورية المدنية والدولة الدينية بعد أن ضاقت الأحزاب الحاكمة نفسها بالديمقراطية، ووصل ضيقها قمته في حل الحزب الشيوعي، وطرد نوابه، ورفض الحكومات تنفيذ قرارات القضاء الذي لجأ إليه الحزب الشيوعي.
وتكون حلف آخر مناهض ضمَ الشيوعيين والقوى الوطنية الديمقراطية المختلفة والجنوبيين، وقسماً كبيراً من الحزب الوطني الاتحادي، وكافة النقابات العمالية والمهنية، ورجال القانون، وأساتذة الجامعات، وتنظيمات النساء والشباب والطلاب والمزارعين والعمال الزراعيين. حلف له هيبته.
وفي هذا الظرف أعلن الحزب الشيوعي فكرة قيام “اتحاد القوى الاشتراكية” لمواجهة انتخابات رئاسة الجمهورية والانتخابات العامة، وأصبح لاتحاد القوى الاشتراكية مرشحه. ومن جهة أخرى، فإن الحزب الشيوعي وجدها فرصة لتصحيح المفاهيم الخاطئة اليمينية التي تأثر بها نشاطه العملي 1966م بتكوين “الحزب الاشتراكي”.
وجاء في التقرير السياسي للمؤتمر الرابع للحزب الشيوعي “1967م”:
“ان فكرة الدمج بين الحزب الشيوعي والقوى الاشتراكية الأخرى لا تعني سوى تذويب الحزب، أي إغراق دور الطبقة العاملة بين تيارات البرجوازية الصغيرة، وحرمان الحركة الجماهيرية من الطليعة السياسية المجربة”.
واختطفت المخابرات الدولية وتعاونت مع تلك الإقليمية تحالف القوى الوطنية الديمقراطية أفكار وتنظيمات وأشخاص ليصبح مرشح اتحاد القوى الاشتراكية هو نفسه رئيس وزراء حكومة 25 مايو الانقلابية المعادية للديمقراطية والأحزاب.
مايو هي الخلاص
انظر: جاء في خطاب رئيس وزراء حكومة الانقلاب:
“إن الثورة جاءت لتحرير الوطن من كابوس الحزبية البغيضة الذي مجته النفوس وكرهته كل الاتجاهات..”.
و”إن فشل ثورة أكتوبر ليس سببه عدم إيمان الشعب بمبادئها، ولكن كان نتيجة القوى الرجعية والاستعمار، الذين سعوا إلى إعادة وجه الحزبية البغيض؛ لأنها أرادت تهيئة المناخ السياسي المتعفن الذي لا تستطيع جراثيم الاستعمار إلا أن تتنفس فيه…”.
“إن مايو هي الخلاص من كل براثن التعددية الحزبية من فساد ومحسوبية ورشوة، وإن الحكومات الحزبية فشلت في تحقيق التنمية في البلاد”.
انظر: وجاء في خطاب جعفر نميري صباح 25 مايو 1969م:
“اإن أحزاب الأمة والاتحادي الديمقراطي وتوابعهم من الإخوان المسلمين قد دلت تجاربنا وأثبتت مسيرتنا أنهم أعداء هذا الشعب…”.
وسنعرض فيما بعد للتطابق بين خطابات الانقلاب وأفكاره المعلنة وبين ما حدث في اجتماع اللجنة المركزية للحزب يوم 25 مايو وكيف أنها جميعاً تتعارض مع تحليل المكتب السياسي “تيار عبدالخالق”، الذي مثل الحزب إلى ما قبل اجتماع اللجنة المركزية الذي أشرت اليه. وتأكدت صحة تحليل المكتب السياسي وهو يؤسس لأسباب رفض التكتيك الانقلابي في 8 مايو 1969م بما ورد كالآتي:
“الحركة الانقلابية باتجاهها المتسلط للقضاء على الكيانات الحزبية القائمة سوف تجهض إمكانيات وفرص العمل العلني للحزب من جديد..”.
وهذه من النقاط التي تضعنا في طريق بحث الاجابة عن السؤال: من قتل عبدالخالق؟
القواعد الأساسية لنجاح الانقلابات العسكرية
كان للانقلابات العسكرية في الألفية الثانية يمينية أم يسارية، رجعية أم تقدمية قواعد أساسية لنجاحها تم التعارف عليها، والانقلاب العسكري كتكتيك هو “عملية سياسية” وأبرز تلك القواعد:
1-أغلبية الجماهير تعيش تحت وطأة أزمة وطنية عامة.
2-خطة عسكرية واضحة ومحددة الأهداف والمسؤوليات والبدائل تراعي:
✓ توازن القوى داخل المؤسسة العسكرية.
✓ سرعة الاستيلاء على السلطة.
✓ تأمين السلطة من الانقلابات العسكرية المضادة.
3-تتابع حركة ونشاطات وإجراءات السلطة الجديدة بما يحول وأية فراغات.
4-معرفة دور المدنيين في الدعم والمساندة والحماية والتأمين.
5-دراسة الأوضاع الخارجية: الاقليمية والدولية عند توقيت الانقلاب “الاعتراف بالنظام الجديد، إمكانيات الدعم، توقعات العمل المضاد للنظر في كيف التحييد أو المواجهة.. الى آخر”.
6-التدقيق عند اختيار القيادات العسكرية والمدنية “مجلسي الثورة والوزراء – وجه الانقلاب” والمتسقة مع توازن القوى داخل المؤسسة العسكرية وأيضاً خارجها.
7-البيان السياسي لقيادة الانقلاب “البيان الأول” الذي يتطلب وضوح القضايا التي يطرحها، والتي يجب أن تكون مقنعة للعسكريين ولعامة الشعب.
إن إيراد هذه القواعد السبعة والمعلومة ضروري، ونحن نبحث عن طبيعة ما جرى في 19 يوليو. وهل هو فعلاً “انقلاب عسكري”.
قيادة الحزب الشيوعي وتكتيك الانقلاب
اجتماع اللجنة المركزية للحزب في مارس 1969م أكد:
– التكتيك الانقلابي بديل عن العمل الجماهيري يمثل في نهاية الأمر وسط قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية مصالح طبقة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، فالتكتيك الانقلابي أيديولوجية غير شيوعية.
– والشيوعيون في السودان لا يقبلون أيدولوجيا نظرية القلة التي تقبض على السلطة ثم بعد هذا ترجع للجماهير.
وناقش المكتب السياسي للحزب يوم 8 مايو 1969م مسألة “الانقلاب”، وكانت الأسس التي قام عليها رفضها الانقلاب هي:
1- من حيث المبدأ، فإن حركة الثورة الوطنية الديمقراطية لا يمكن أن تعبر عن نفسها عن طريق عناصر تنتمي فكراً ومصلحة للبرجوازية الصغيرة، وهي التي تعادي فكرة الطبقة العاملة وتتناقض مصالحها مع مصالح العمال.
2- من مميزات البرجوازية الصغيرة التذبذب في المواقف والتردد في الفكر والانتقال المفاجئ من اليسار لليمين والعكس. وبذلك تمثل خطراً على حركة الثورة والتي تتقدم بصراعها من يعاديها ويمثل خطراً مطّرداً معاكساً لها.
3- هناك استحالة نظرية وعملية تحول دون مجرد التفكير في إمكانية قيام عناصر عسكرية بإنجاز مهام الثورة الديمقراطية، التي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال جبهة بقيادة الحزب الشيوعي.
4- الحركة الانقلابية ستكون صورة مماثلة لحكم الفريق عبود حتى لو كانت الشعارات التي تطرحها أكثر تقدماً من شعارات الحكم العسكري السابق.
5- الحركة الانقلابية باتجاهها المتسلط للقضاء على الكيانات الحزبية القائمة سوف تجهض إمكانيات وفرص العمل العلني للحزب من جديد.
6- إن الحركة الانقلابية سوف تجهض مرحلياً على الأقل التطور الحتمي للمصالح الطبقية المتناقضة، الأمر الذي يؤجل أو يخفف من حدة الصراع الطبقي.
7- الحركة الانقلابية ستلحق أضراراً، وتسبب آلاماً لا حد لها بحركة الثورة السودانية، وطرحها السلمي، وتفتح باب العنف والعنف المضاد واسعاً، ويصعب إغلاقه من بعد ذلك.
ان المكتب السياسي بقيادة عبدالخالق كان متوحداً ضد “مبدأ الانقلاب” الذي يعرفون طبيعته ومنفذوه، وما ذكره عبدالخالق يوم 25 مايو 1969م “ما حدث صباح اليوم انقلاب عسكري نفذته البرجوازية الصغيرة…” الى آخر هو ذات ما ذكره يوم 19 مايو 1969م قبل ستة أيام من الانقلاب أمام الجماهير في ندوته بحي بانت بأم درمان عندما قال:
“ان البلاد دخلت الآن بما لا يقبل الجدل في نفق مظلم للغاية.. وإنني لا أرى مخرجاً منطقياً من هذا النفق سوى قيادة وطنية جديدة تترجم إرادة التغيير وتعبر عن تطلعات الجماهير..
ولعله من الواجب أن أؤكد هنا أن حزبنا الصامد يرفض أية مغامرة عسكرية طائشة للتغيير تستغل فيها البرجوازية الصغيرة معاناة شعبنا لتتسلق الى الحكم تحت عناوين نعرف سلفاً أنها زائلة قبل أن تستوعبها جماهيرنا..”.
ونلاحظ هنا أنه مع اشتداد الأزمة الوطنية وكذلك الصراع الفكري الذي هو طبقي داخل الحزب. اتجه عبدالخالق من بعد المكتب السياسي إلى “الجمهور” وأبان موقف القيادة من الانقلاب، لكن لم يتجه نحو اللجنة المركزية، ولم يدعها للاجتماع؛ لأنه كان يعلم أن اللجنة المركزية في أغلبيتها ستتخذ قرارها بالاشتراك في الانقلاب.
انقلاب 25 مايو وموقف تنظيم الضباط الأحرار
نفذ انقلاب 25 مايو 1969م بعد أسبوع من اجتماع المكتب السياسي، وكان من المقرر أن يتم الانقلاب يوم 12 مايو، ولكن تأجل بسبب الخلافات في قيادة تنظيم الضباط الأحرار، وندوة عبدالخالق كانت يوم 19 مايو 1969م. فماهي الاتجاهات في قيادة تنظيم الضباط الأحرار ومن هم ممثلوها؟
توزعت آراء اجتماع قيادة التنظيم “ثلاثة عشر” على ثلاثة اتجاهات وثلاث مجموعات:
الاتجاه الأول: استند إلى موقف فكري من الانقلاب، ومثله الضباط الشيوعيين في ذلك الاجتماع: بابكر النور، وعبدالمنعم محمد أحمد الهاموش، ومحجوب ابراهيم طلقة. وهنا تطابقت وجهة نظر المكتب السياسي مع موقف الضباط الشيوعيين.
“انظر: تكوين مجلس الثورة في 19 يوليو 1971م”.
الاتجاه الثاني: رأى أن قدرات التنظيم على إحداث التغيير “الانقلاب” غير متوافرة ومثل هذا الاتجاه: أبوالقاسم هاشم، والرشيد أبوشامة، وصلاح عبدالعال، وعبدالرحمن حسن.
الاتجاه الثالث: رأى أن إمكانيات التغيير “الانقلاب” متوافرة الآن مع جاهزية القوة وضرورة التعجيل بالتحرك، ومثل هذا الاتجاه: جعفر نميري، وخالد حسن عباس، وفاروق حمدالله,، وأبوالقاسم محمد إبراهيم، ومأمون عوض أبوزيد، وزين العابدين محمد أحمد عبدالقادر.
انظر (1): قام ممثلو الاتجاه الثالث “الأقلية” بتنفيذ الانقلاب وقيادته في 25 مايو، وكان التنظيم قد اختار مسبقاً مجلس قيادة ثورة، ومجلس 25 مايو هو من ضمن تلك الأسماء.
انظر (2): الاتجاه الأول الذي مثله الضباط الشيوعيون تحول إلى قيادات في 19 يوليو، وأضافوا اليه ضباط شيوعيين، كما أضافوا فاروق حمد الله دون علمه أو موافقته، وهو الذي كان أصلاً “قلب نشاط الاتجاه الأول، وأبعده جعفر نميري “الذي يعرف قدراته” مع بابكر النور وهاشم العطا في نوفمبر 1970م.
ونميري ورفاقه وغيرهم من الضباط الأحرار يعلمون أن فاروق لم يكن شيوعياً، وكان موقفه معارضاً لموقف الشيوعيين في مايو 1969م. وفاروق من الدفعة العاشرة للكلية الحربية التي ضمت من الضباط الأحرار كذلك:
خالد حسن عباس، ومحمد أحمد الريح “مجلس 19 يوليو”، والرشيد نورالدين، وسيد أحمد حمودي، وتم إبعاد الأخير يوم 19 يوليو وخلفه يحيى عمر قرينات من الدفعة الحادية عشر، التي ضمت من الضباط الأحرار: هاشم العطا، والرشيد أبوشامة، وصلاح عبدالعال مبروك.
حل تنظيم الضباط الأحرار
في أول اجتماع لتنظيم الضباط الأحرار بعد انقلاب 25 مايو خاطب نميري الاجتماع، وكان تركيزه في واجب الأقلية ليس فقط الالتزام بقرار الأغلبية “السلطة”، بل الدفاع عنه بقوة وتنفيذه.
وفي الحقيقة، فإن تيار الأقلية من القوميين العرب في تنظيم الضباط الأحرار بعد الاستيلاء على السلطة باسم “كل التنظيم” لم يكن يملك أي استعداد لمراقبة التنظيم لأداء السلطة أو محاسبة أعضائها داخل التنظيم أو توجيه السياسات. بل إنه حتى قبل حل التنظيم “اكتوبر 1969م” بدأت السلطة في إقامة تنظيمات للضباط والصف والجنود “أحرار مايو”.
وأحرار مايو تنظيم كان يرعاه اللواء أحمد عبدالحليم، والعميد سعد بحر، وكان اللواء خالد حسن عباس يشجعه، ويحضر اجتماعاته، وهدف التنظيم حماية سلطة مايو.
ونواصل