عندما جئت إلى وادي حلفا في صيف 64 ( لست متأكداً من التاريخ ) لم أجد الوالد ، كان قد غادر المدينة قبل حضوري بأيام للعلاج في شندي .. هكذا قيل لي في محطة السكة حيث كان يعمل موظفاً .. ولم يكن معي من المال ما اعتمد عليه حتى عودته .. فلم أجد بداً من ( الحوامة ) في طرقات المدينة .لكن تعرف علي في إحدى متاجرها العم عوض علي مدني ، ورحب بي ، وأرسل معي من دلني على مكتب المعتمد ( وديدي ) فلما قابلته سجل اسمي في كشف العدادين ، وطلب مني أن ألحق بحي ( عروسة) لاستلام عملي .. وقد كان.. ولما ترجلت من اللوري أو الكومر .. وجدت خالي محمد علي كباره .. وأصبحت في زمرته .. في الليل انتظم الجماعة في قعدتهم يتسامرون، فوجدت (عنقريباً ) منسوجاً بالجريد، أمام النيمات الثلاثة أمام البيوت وربما كانت لبخاً .. فرحت في سبات عميق .. إلا أن خالي لم يتركني لأنعم بتلك النومة العميقة ، بل أيقظني بعنف وهو يقول هذا عنقريب الشيخ محمد ، وأصبح يخوفني وصديق معه من أن اقترب من العنقريب مرة أخرى .. ولكني لم التزم بتحذيراتهم ، لاسيما وقد تحركوا بمركبهم ( اللاندي) إلى أرون آرتي وغيرها لنقل العفش .. وانخرطت من اليوم الثاني في العمل .. كان علينا أن نمر على البيوت ونسجل العفش المعد للترحيل بأرقام .. ثم طلب منا أن نصعد بعد (العروسة) مرتفعاً جبلياً للوصول إلى حلة الفنان ( فروحي ) أظنها [ دوشات] ولكني لم أجد معه ابنه علي ، الذي زاملته في مدرسة عبري الوسطي ، وقد آلمنا طريقة أحد الأساتذة في جلده حتى كان يرقد لأيام على بطنه؛ لما وجده يدخن أو بحوزته ( قمشة ).
قد اكتفي في هذه الخاطرة بحدثين اضطربت فيهما ، وهزني ما حدث فيهما طويلاً؛ ذلك أني وجدت فيما أسجله من العفش ، جوالاً ثقيلاً تبينت مما سال منه أنه رمل ، نعم رمل .. فلما ترددت نهرني الرجل : عليك أن تسجل .. فأنت لا تعرف معزته عندي .. فسجلته.. ولما طلب مني ذات مرة أن اصطحب العفش إلى مدينة وادي حلفا .. كان على كل من في اللوري أن ينزلوا منها في صعودها على ( المطلع ) المخيف ، فنزلنا .. حتى أكملت أنينها وفحيحها ودعوات بعضنا : ( يا ساتر .. يا لطيف ) فلما اكتمل صعودنا على ظهرها وتحركت متمهلة ، لاحظت ( زيرا) محطماً إلى قطع ، فتحركت نحوه وأمسكت بقطعة منه فصاح صاحبه في وجهي: ماذا تريد أن تفعل بها .. دعها فقد اشتريت هذا الزير بمناسبة زواجي قبل…… وبدأت الحكاية ، وسالت الدموع ، وفجأة تتعالى ضحكة باهتة ، وتعقبها آهات وآهات ..ويشترك من معه في بعض هذه الحالات العنيفة .. ثم يصمتون .. ثم يتذكر الرجل حدثاً آخر، أو مقطعاً من كلوكية ، وقد يكمل له صاحبه ، أو يشتركون في ترديد مدحة أو … لقد طالت هذه الرحلة عندي .. لا أعرف فيها ماذا أقول .. وماذا أفعل .. !! بعد أيام حضرت حفل عرس امتلأ بهجة ومسرة.. وعلت الأصوات بالغناء ، وضرب الشباب أرجلهم بقوة وضراوة .. وارتفعت زغاريد النساء.. لقد أرادوا أن يفرحوا في آخر أيامهم بموطن أجدادهم ففرحوا .. ونسوا كل ما عدا الفرح ..
وكنت كتبت في منتدى (كدن تو) مجموعة من ذكرياتي عن التهجير، ومن بينها مشروع قصة قصيرة عن مآلات الهجرة .. فعلق الأستاذ عبد المنعم محمد علي، على خاطرة منها.. بقوله : ” للإنصاف ، هي أكثر من مجرد محاولة ، قصة قصيرة يملك كاتبها أدواتها ،، كما يبدو ،، ولغة قوية آسرة لا نجدها حتى عند الكثيرين من مشاهير كتاب القصة ،، ولكن يبدو أن صاحبها تكاسل عن المضي بها لتكون قصة ذات قوام كامل ، أولم يشأ أن يفعل ذلك لسبب ما. “وأكمل حديثه بنقد علمي لتفاصيل محاولتي.. ورغم ما أصابني من الاعتزاز والغرور.. آثرت أن ابتعد من ساحة القصة حتى أمتلك أدواتها .. وما زلت ..