١٩٩٥ في بداية ذلك العام والصيف قائظ والسماء الاستوائية صائمة عن مطرها المباح، هبطت بنا الطائرة المروحية في شرق الاستوائية بجنوب السودان في منطقة (موية سخن) التي تضم ينابيع مياه كبريتة سخنة لا يهتم بها أحد، كانت الطائرة تقل الزعيم جون قرنق وكنا بصحبته شخصي والقائد جيمس هوث ماي الذي أصبح لاحقاً رئيساً لهيئة أركان الجيش الشعبي لدولة جنوب السودان ووزير العمل الحالي، وكوال مجاك الذي لازم قرنق كظله وفي حراسته الشخصية وإذا ما رأيت كوال فان قرنق سيكون في مكان ما غير بعيداً منه. كان المعسكر وسط غابات استوائية ويضم رئاسة القوة ومعسكر لأسر الضباط وضباط الصف والجنود ومواطنين ونازحين، استقبلنا الضباط بفتور واقترب مني حماد أدم حماد الموجود في ذلك المعسكر والذي أعرفه منذ سنوات وقال لي بصوت خافت إن مجيئنا خطأ كبير وأن هنالك تحريض وعدم رضا واسع ضد قيادة الحركة وأن المعسكر على شفا المجاعة ولا يوجد طعام أو ذخيرة وأدوية وزي عسكري ويعاني المعسكر من قلة الجرذان، وذكرت له أن دكتور قرنق مطلع على ذلك وذهبنا إلى منزل جون قرنق الذي تقوم الوحدات العسكرية بتشييده له من أعواد القصب والقطاطي في كل المناطق التي يزورها وهو الذي عاش حوالي ٩ سنوات في الولايات المتحدة الأميركية وقرر بمحض إرادته أن يمضي اكثر من ٢٠ عاماً محارباً وبرؤية شديدة الوضوح ينشر الفكر قبل السلاح ويوزع الأحلام والآمال ويقود مئات الآلاف جلهم من الفقراء المهمشين وعدد ليس بالقليل من المتعلمين دون أن يعطيهم مرتبات شهرية، وقبل عام من هذه الرحلة في (١٩٩٤) التقيناه بكمبالا وقد كان معظم الحاضرين من الضباط الغاضبين الذين طلبوا من دينق ألور وشخصي أن نقنعه بعقد اجتماع للاستماع اليهم، وعقد الاجتماع وأفرغ الجميع غضبهم وقد مضى على الحرب (١١ )عاماً كانوا مشاركين فاعلين فيها وثابتين بعد انقسام الحركة وبعد أن ضربتها رياح المتغيرات الداخلية والإقليمية، كعادته امتصّ غضب الجميع، وجلس من التاسعة مساءً حتى السادسة صباحاً فجر اليوم التالي واستمع بصبر لكل الحاضرين وأخرج دفتره الشهير ودون ملاحظات الجميع وبدأ ردوده أولاً بتوزيع القفشات معلقاً بأن الزمن بالفعل قد مضى وقال لقد التقينا شباباً والآن قد كسا شعر رأسنا البياض وأشار إلى بعض الحاضرين، ثم حدد الكوارث التي تحيط بنا وكيفية تحوليها إلى منفعة وأجاب بوضوح على سؤال رئيسي من كادر الحركة، (هل شكل حلف مع قدامى السياسيين ضد كادر الحركة؟) ثم انتقل إلى تحديد وجه المنفعة في كل كارثة وربط بين الآراء المتناقضة ووفق بينها بخيط ناظم نحو الانتصار والمضي إلى الأمام لا التراجع.
كان حماد صادقاً بأن قرنق سيواجه مأزقاً صعباً في المعسكر وبعد وقت وجيز دعا قرنق الضباط لمحاضرة وغفلت الطائرة التي حملتنا إلى المعسكر راجعة إلى قاعدتها وبدأ اللقاء خالياً من الحماس وأخذ قرنق في تحليل وضع الحركة والجيش الشعبي والهزائم التي تعرضت لها في حملات الجهاد وصيف العبور وسيوفه وفقدانها ما يقارب (١٦) مدينة حرّرتها بالدماء والدموع، والحصار الذي تتعرض له وتراجعها في كثير من المناطق إلى الحدود الدولية والإنقسام والنزيف الداخلي الذي تعاني منه ثم حلل الوضع في عموم السودان واستعداء النظام الحاكم لأغلبية السودانيين وخطر النظام على الاقليم وامتداد ذلك للمجتمع الدولي، وأكد أن الحركة سوف تكون في رفقة ممتازة عن قريب وأنه قد التقى بقوى المعارضة السودانية وبالقادة الإقليميين وأن مؤتمر للمعارضة سوف يعقد بالعاصمة الإرترية أسمراء وارتفعت درجات التفاعل معه رويداً رويداً بأعلى من ارتفاع حرارة الجو ثم انطلقت الأهازيج الثورية والهتافات بحياة قرنق والثورة من حناجر الضباط، وبلغت قمتها حينما أعلن أنه لن يغادر المعسكر إلا بعد وصول المواد الغذائية والدواء والملابس العسكرية وأنه سوف يقوم بإعلان … لقد كان قرنق مايسترو عظيم وفي صباح اليوم التالي أعلن عن …
١٩٨١-١٩٨٢ في أمبدة أمدرمان وعن طريق الصديق العزيز حسن نابليون الموجود الآن بأستراليا تعرفت على حماد آدم حماد المعلم والنقابي والشيوعي وقد كان ملء السمع والبصر في مجاله وفي فترة كان المسؤول السياسي لفرع أمبدة وتمكن مع زملائه من خلق نفوذ واسع للفرع في أوساط الشباب والنساء على أيام جعفر نميري والتقيت العديد من رواد هذه المجالات، كان نابليون يكن تقديراً لحماد وطلب مني زيارته في منزله وحسن نابليون من أهم أصدقائه في الحياة العابرة والتي سنتركها خلفنا، ففي سنوات الجامعة تعرفت عليه عبر صديقنا خالد محي الدين وقد كان مسؤلاً في مكتب الثانويات في ولاية الخرطوم التابع للحزب الشيوعي وعرفني بالكثير من طلاب الثانويات والذين انتقل بعضهم إلى الجامعات وكانوا يكنون له احتراماً كبيراً ومنهم الراحل حسن خضر سعيد وآخرين وربما من الأوفق عدم ذكر أسمائهم لتعقيدات أوضاعنا الراهنة، حماد أدم من الجزيرة أبا التي كانت حبلى بالثوريين وكان انساناً ساخراً أحفظ له العديد من القصص الموجعة والملهمة معاً ولولا ضيق المساحة لتطرقت لكثير منها ولكننا على عجل كأن الريح تحتنا وتحسدنا النعامة على (الجري والطيران) الذي كانت تطمح فيه.
ذات مرة قال لنا حماد وكنا مع حسن أحمد الحسن (نابليون): يا زملا (الميدان) الجديدة صدرت ولا شنو؟ لاقيت عدد من الزملا بتكلموا نفس اللغة وبنشروا نفس الأخبار كانهم وكالة نوفوستي! وهي إحدى وكالات الاتحاد السوفيتي ولاتزال الآن في روسيا الاتحادية.
١٩٩٠ اقترحت على قيادة الحركة دعوة الأستاذ والمبدع الكبير محمد وردي لمعسكرات اللاجئين في جنوب السودان وبشجاعته المعهودة استجاب للدعوة ولعب القائد الراحل مارتن مانييل دوراً رئيساً في تلك الزيارة، انطلقنا من أديس أبابا وفي مدينة قمبيلا في أقصى غرب إثيوبيا التقينا بالقائد سلفاكير الرجل الثالث في الحركة حينها وتحركنا لمعسكر (اتنغ) للاجئين وربما هو أكبر معسكر للاجئين في جنوب السودان، استقبلنا قائد المعسكر تعبان دينق نائب رئيس دولة جنوب السودان الحالي ووسط الجموع رأيت حماد ادم حماد (المابغباني) ومعه الطيب عبدالله فارس في مفاجأة سارة وكليهما أصدقاء قدامى والطيب عبدالله فارس إنسان عجيب وهو من أبناء الجزيرة أباً ولا يزال في الوقت الراهن في جبال النوبة ولم يبدل تبديلا وهو من جذب زكريا محمد أحمد للعمل السياسي كما حكى لي زكريا حتى أصبح شيخاً ومجذوباً من المجاذيب. ولما كان كليهما مستجدين قلت لهما: (بعدين في عشا للأستاذ محمد وردي، ولن يسمح لكم كمستجدين بالدخول انتظروني قدام الباب من بدري وندخل مع بعض) وهذا ما حدث وجلس حماد والطيب في الطاولة المجاورة خلف الأستاذ وردي، وحماد المستجد لا يتورع عن السخرية وفي بدايات العشاء وكان الجو ساخناً من نسمات تلسع العرق الممزوج بالأملاح
تسآل الأستاذ وردي: يا جماعة ما عندكم تلج؟
فأجابه حماد: يا أستاذ وردي تلج في معسكر لاجئين؟!
سأله وردي : منو انت يا أخوي؟
فأجاب: حماد أدم
فسأله مرة أخرى: من وين؟
فأجاب من امبدة والآن في ايتنغ
سأله الجابك هنا شنو؟
فأجاب يا أستاذ كلنا في الهوا سوا فضحك الجميع، وذكرت لوردي من هو حماد آدم والطيب عبدالله فنهض من كرسيه وعناقهم بحرارة.
في صباح اليوم التالي أعلن قرنق عن ترقيات جديدة للضباط فوصلت المعنويات إلى عنان السماء واتت الشاحنات تحمل الطعام والأدوية والذخيرة والملابس العسكرية وقام قرنق بتسليمها لقائد المنطقة وأعطاه التعليمات ومن ضمن الضباط الذين تم ترقيتهم جمعة بابو (ابو حديد) الذي شارك في معركة بور في ١٦ مايو ١٩٨٣ معلنين انطلاقة الجيش الشعبي وبعد ترقيته إلى قائد مناوب جاء مع كل زوجاته وأولاده وكبرى زوجاته تحمل (صفارة) وهو يحمل قرن تور ويردودون الأغاني ويصدرون أصوات موسيقية ويدرون حول منزل قرنق وقام قرنق بتحيتهم كعادته وقد أدخلوا ابتسامة وضحكة على وجه ذلك المناضل المنتمي والثوري والمفكر الملتزم بوحدة السودان، والذي غُيب بعد يوم الساحة الخضراء يوم الفقراء والمهمشين والمثقفين يوم التحام الريف بالمدينة وقد وصل قرنق إلى مرافئ قاعدة اجتماعية جديدة كانت السبب في تغييبه.
بعد ساعات جاءت المروحية وخرج المعسكر بكامله لوداع قرنق الآلاف من النساء والأطفال والرجال خلفه لقد كان قرنق التاريخ يصنعه رجال ونساء خلف بندقية وفكرة، وجاء حماد آدم لجانبي وقال لي ساخراً : (عمك الساحر والأطفال وضع يده على الاشجار اليابسة فأخضرت وادخل الابتسامة في قرية ميتة!) وعدنا إلى كمبالا وفي اليوم التالي أقلتنا طائرة أخرى إلى مدينة اسمرا عاصمة دولة ارتريا وقمنا بإنشاء مكتب يطل على الجبهة الشرقية! وكما وعد قرنق فعل وبدأت أزمنة جديدة وتركنا ٦ سنوات عجاف خلفنا، لقد كان قرنق بحق زعيمنا وقائدنا وأخانا الكبير ولازال يشدني الحنين في رحابه، نحن الذين أتيناه من جغرافيا بعيدة في مشوار انساني نظل نعتز به.
١٩٩٢ زارني حماد ادم بالقرب من كاجو كاجي في غرب الاستوائية على ضفة النهر أمضى معي اياماً ممتعة مليئة بالسخرية وتحاورنا في تجارب الماضي وإيجابيات وسلبيات تجربتنا في الحركة الشعبية، تحدثنا حول كل شئ ولازلت اذكر ان حماد اخبرني انه حينما تولى المسؤولية السياسية في فرع امبدة وصعد إلى قسم مدينة امدرمان كان يعتقد انه من الأجدر ان يكون مسؤولها السياسي ويصعد لمديرية الخرطوم ولكن ذلك لم يحدث وتسأل عن السبب هل هو تكتل ابناء المدينة ضد الريف أم العنصرية، لازال سؤاله معلق في هواء أسئلةً ذات صلة بما يدور في مجتمعنا اليوم وبعد سنوات التقينا مرة أخرى في مدينة الخرطوم وفي كوستي والجزيرة أباً بعد اتفاقية السلام بعد دورة كاملة من الحياة المعقدة وما شاء الله فعل.
يطلق الجيش الشعبي على كل من يقدم خدمات طبية لقب (دكتور)، حكى لي حماد انه كان مسؤولاً عن العيادة العلاجية في منطقة (نيربنغ) بجنوب السودان، فجاء وفد من منظمة طبية أمريكية فسأل الجنود هل لديكم طبيب؟ فأجابوا بالإيجاب وذهبوا للقرية للبحث عن حماد وحينما أتى وقابل الأطباء سألوه هل انت طبيب؟ فأجاب بالإيجاب وأردف احدهم تخرجت من اي جامعة؟ فقال لهم من جامعة (نيربينغ) فسأله أحدهم هل هي بألمانيا؟ فأجاب حماد بسخريته المعهودة نعم هي في ألمانيا، وعرف حماد في سنوات الجنوب بالدكتور حماد ادم.
٢٠٠٥ وقعت اتفاقية نيفاشا للسلام، أختفى حماد في ريف جنوب السودان وانقطعت الاتصالات معه وكنت واحد من مجموعة ظل يكلفها القائد سلفاكير في لجان اختيار الوزراء ضمت دينق ألور وكوستي مانبيبي وآخرين احياناً، ولما كنت مسؤولاً عن القطاع الشمالي حينها رشحت حماد آدم وزيراً بولاية النيل الأبيض ومر أكثر من شهرين ولم نجد للوزير خبراً رغم الإعلان عن اسمه في الإذاعة والتلفزيون وهو في ريف الجنوب لا يقيم وزناً للإذاعة والتلفزيون أو تعيينه وزيراً وقمت بزيارة والده وأسرته في الجزيرة أباً وقد اصابهم القلق على حياته وبفضل القائد بيور أجانق (بيور أسود) الذي كان في قيادة الجيش وبذل مجهود مقدراً للوصول اليه عن طريق وحدات الجيش وبيور اسود كبير في انسانيته التي ظللتنا في سنوات الحرب ومحبتي لبيور أسود لا تنقطع وسوف أحملها إلى ضفة العالم الاخر وهو لا يزال فاتحاً زراعيه لكل رفاقه القدامى دون منْ أو أذى. جاء حماد متأخراً عن الوزارة وتولى رئاسة الحركة الشعبية بالنيل الأبيض وبعدها تفرقت بنا السبل.
٢٤ مايو ٢٠٢٤ صحوت على خبر هذه الدانة اللعينة في مدينة امبدة-امدرمان التي أخذت طريقها إلى حماد ادم حماد وابن اخته أحد قادة لجان المقاومة بامبدة ظافر حامد ابو قرجه ، رواغ حماد كل الدانات في جنوب السودان ورفض ان يحدد موعداً معها وهو من ذهب للجنوب طوعاً واختيارا ونجا من جميع الدانات بأعجوبة حتى صادفته واحدة مجانية في حرب ١٥ أبريل اللعينة، العزاء الحار لأسرته وأصدقائه وعارفي فضله وقدر ابن اخته ظافر ابو قرجه في أمدرمان والجزيرة أباً وكل السودان.