الاعتدال والتأدب الذي أعنيه هو : قبول الكيزان بأن يكونوا في هذا الوطن مواطنين عاديين لا سادة اوصياء على دنيا الناس وآخرتهم، ويقتنعوا بان عهدهم في السلطة قد انتهى لأنه بمنطق السياسة والتاريخ والاخلاق كان لا بد ان ينتهي، وانهم يجب ان يقبلوا ذلك كحقيقة موضوعية ويفتحوا صفحة جديدة خالية من اوهام العودة الى فردوس السلطة المفقود بالقوة العسكرية.
معطيات الواقع تقول بوضوح لا لبس فيه: لن يعتدل الكيزان ويتأدبوا مع الخلق والخالق إلا في حالة واحدة فقط هي ببساطة ان يفقدوا قوتهم العسكرية التي تمكنهم من قهر الشعب السوداني وان يفقدوا المال السائب المتدفق عليهم من حنفية المال العام بلا حسيب او رقيب والذي يستخدمونه في افساد الحياة السياسية واغراقها في الزيف والكذب والتضليل عبر الاعلام الفاجر المأجور وعبر الرشاوى السياسية.
لن يعتدل الكيزان ويتأدبوا الا إذا كان هذا هو الخيار الوحييييد المتاح امامهم! إلا إذا فقدوا القوة العسكرية والمال المسروق من الشعب السوداني! باختصار الا اذا انكسر مركزهم الامني العسكري وفقد السيطرة والجدوى السياسية والاقتصادية.
هل معنى ذلك انني اتبنى خيار استمرار الحرب حتى ينفذ الدعم السريع هذه المهمة؟ هذا استنتاج متعجل وغير صحيح للاسباب التالية:
اولا: شخصيا لا انظر الى الدعم السريع كمنقذ او مخلص من الاستبداد والدكتاتورية لاسباب شرحتها بالتفصيل في مقالات سابقة.
ثانيا: انا وامثالي من المدنيين الديمقراطيين لا نمتلك امر التحكم في هذه الحرب وهي وبال علينا ولو كان لنا من الامر شيء لما تركناها تندلع أصلا لان في اندلاعها حكم اعدام على الحياة الطبيعية للسودانيين وحكم اعدام مغلظ على الحياة السياسية الديمقراطية، ولكنها اندلعت رغم ارادتنا وعلى العكس تماما من تمنياتنا، اندلعت لان الكيزان ارادوا ذلك، ولأن الدعم السريع نفسه أراد ذلك، الكيزان يرغبون في الحكم بالقوة، والدعم السريع يرغب في الحكم بالقوة وهذا ما جعل الحرب حتمية، لا يهم من أطلق الرصاصة الاولى ولا داعي للغرق في شبر ماء التفاصيل التي لا معنى لها! فالحرب كانت حتمية بكل اسف بسبب طمع الطرفين في السلطة.
حسب كثير من التجارب التاريخية ، تفرز الحروب في النهاية نتائج ضد مقاصد اطرافها، ربما يحصد شعب السودان المنكوب الذي دفع فاتورة هذه الحرب اللعينة دون ان يكون طرفا فيها مكسبا تاريخيا للأجيال القادمة وهو “تجريد الكيزان من أدوات قهر الشعب السوداني”. ولكن هل سيكون البديل نظاما ديمقراطيا؟ بالطبع لا! المرجح حسب معطيات الواقع هو “استبداد آخر”! بمعنى ان الديمقراطيين الحقيقين معركتهم ستظل مستمرة وطريق التضحيات امامهم طويل وشائك حتى بعد ان تضع الحرب اوزارها، ولكن الدكتاتورية التي ستخلف الحرب ستكون ضعيفة سياسيا وحتى عسكريا ومنزوعة الهيبة والمهابة ، فالدعم السريع انهزم سياسيا أثناء الحرب بانتهاكاته الكبيرة ضد المدنيين، والجيش انكشف ضعفه ومدى سيطرة الكيزان عليه، اما الكيزان فأثبتوا في هذه الحرب مدى عدم قابليتهم للاصلاح بالتي هي احسن ومدى انغلاقهم على خيارين لا ثالث لهما: إما حكم السودان وإما إحراقه بالكامل!
كيزان السودان منذ نشأتهم لم يتعرضوا في هذا البلد الطيب اهله لما تعرض له الاخوان المسلمون من قمع واضطهاد في سوريا ومصر وليبيا وتركيا، حتى بعد سقوط نظام حكمهم الذي بدأ بدق مسمار في رأس طبيب وانتهى بدق خازوق في جسد معلم وبينهما الابادات الجماعية ونهب الموارد وتبديد الاصول المادية والمعنوية، حتى بعد سقوطهم بثورة شعبية ماذا فعل لهم هذا البلد الطيب؟
ماذا فعلت لهم الثورة السلمية؟
هل أذاقتهم ولو نذرا يسيرا مما أذاقوه لهذا الشعب خلال حكمهم البغيض!
ابدا ، ولكن الذي أذاقهم الويل والثبور وعظائم الامور هو المليشيا التي صنعوها بأيديهم لحماية وحراسة نظامهم الفاسد المنحط فانقلب السحر على الساحر!
ظنوا ان الحرب مع الدعم السريع ستكون نزهة مجانية مثل حروبهم على العزل والنساء والاطفال في دارفور والمتظاهرين السلميين في الخرطوم ومدني وعطبرة والابيض!
وبعد ان مد الواقع لسانه لرغائبيتهم وطال امد الحرب ، كالعادة لم يستخلصوا الدرس الصحيح ويدركوا ان هذه الحرب لن تعيدهم الى السلطة ولو استمرت ستقسم البلاد وتدمر الدولة! بل عضوا على الاجندة الحربية بالنواجذ وكأنهم عاهدوا شياطينهم على ان يحرقوا هذه البلاد شبرا شبرا ويدكوها على رؤوس من فيها عقابا لشعبها لانه لم يقبل باستمرار حكمهم الفاسد للأبد!
وبدلا من ان يراجعوا حساباتهم لصالح “معادلة كسبية” تحقق السلام وتنقذ ما تبقى من وطن وتوقف نزيف الدم، انخرطوا في عمل منهجي لإطالة امد الحرب وتحويلها لحرب اهلية عبر خطاب الكراهية والعنصرية وركزوا مدفعيتهم الثقيلة صوب القوى المدنية الديمقراطية كذبا وتلفيقا للاتهامات واغتيالا للشخصيات بهدف تشويه الصوت المدني واستئصاله وتحميل المدنيين مسؤولية الحرب ومسؤولية انتهاكات الدعم السريع عبر ابشع عملية تضليل وتزييف للوعي وكسر لأعناق الحقائق شهدها تاريخ البلاد! فالكيزان بعد ان فشلوا في استئصال الدعم السريع عسكريا وتجرعوا الهزائم المتتالية في ميدان القتال، فمن غير المستبعد ان يفكروا مجتمعين او يفكر تيار منهم في تقاسم السلطة مع الدعم السريع ان رضي هو ورضي حليفه الاقليمي، ولذلك يجب توجيه شحنة الغضب والاستياء الشعبي من ويلات الحرب الى القوى المدنية الديمقراطية!! يجب خداع الشعب بان الرصاص الذي يقتله والدانات التي تهدم بيوته وتمزق اوصاله وكل الدمار الذي لحق به مصدره قحت وتقدم! وليس مصدره الاطراف العسكرية التي تتقاتل على السلطة! سبب الموت والجثث التي تتنهشها الكلاب ودم الابرياء المسفوك ومذلة النزوح واللجوء والمباني المهدمة والجسور المدمرة هو القوى المدنية التي ترفع رايات السلام ولا تحمل في يدها سوى القرطاس والقلم ! وليس السبب هو الجيوش المتحاربة التي في يدها الدبابات والطائرات والتاتشرات والمدافع والبنادق! وليس السبب هو التنظيم الاخطبوطي صاحب المليشيات والمهيمن على مفاصل الاجهزة الامنية والعسكرية!
هل هناك بجاحة وافتراء وتجني على الحقيقة اكثر من ذلك!
وهل من مسخرة مثل ان يجد هؤلاء الافاكون في صفوفنا من يتطوع لإزاحة اللوم عنهم ويوبخ من يكشفون زيفهم واكاذيبهم ،بل ويساوي بينهم وبين ضحاياهم بترويج ثنائية كيزان وقحاتة!!
هل يعقل تقسيم المسؤولية عن الازمة السودانية بالتساوي بين النظام الذي حكم بالحديد والنار ثلاثين عاما ارتكب فيها ابشع الجرائم والمفاسد وحكومة انتقالية لم تستمر سوى عامين وكانت مخنوقة بايدي العسكر واذرع الدولة العميقة وفي النهاية تم الانقلاب عليها!
إن زجر الضحية وملاطفة المجرم وعزف المعزوفات التي تطربه بالصورة التي رأيناها أثناء هذه الحرب لا علاقة له بالموضوعية والاتزان، بل هو تواطؤ مفضوح مع المجرم على حساب الموضوعية والاتزان! أو على احسن الفروض احسان ظن بالمجرم واعتقاد بان الملاطفة والطبطبة ستجعله يكف أياديه عن الاجرام! وهذه غفلة!
الكيزان لن يكفوا عن الاجرام الا إذا أصبحوا غير قادرين عليه! ولو كانت الملاطفة تجدي معهم لما فعلوا بالسودان البلد الذي اكرمهم دونا عن كل بلاد الدنيا ما فعلوه من تخريب وحروب ودمار!
وسط نيران حربنا هذه نتساءل: هل أصابت مصر عبد الناصر ومصر السيسي ، وسوريا حافظ الاسد وليبيا القذافي وتونس بورقيبة وقبل ذلك تركيا اتاتورك في معاملة الاخوان المسلمين فيما اخطأ السودان وهاهو يدفع الثمن؟
كيزان السودان هزموا “الإسلام السياسي” شر هزيمة لأنهم قطعوا لسانه الأخلاقي وكانت ممارساتهم ضد البلد الذي عاملهم برفق وكرامة حجة قوية يمكن ان يستخدمها أصحاب النهج الاستئصالي ضدهم في أي مكان !