بمزيد من الحزن والأسى أنعى عالمة النوبيات المرموقة نيتي آدامز، التي غابت شمسها في لكسينغتون بولاية كنتاكى في الحادي عشر من يونيو 2024م، بعد حياة حافلة توزعت سنواتها بين الأنثروبولوجيا والآثار واستأثر اهتمامها بالنوبة الجزء الأكبر منها.
جاءت نيتي إلى بلادنا في نهاية الخمسينات برفقة زوجها العلامة وليام آدامز عندما اختارته اليونسكو رئيسا لحملتها لإنقاذ آثار النوبة، وعملت إلى جوار زوجها في جميع عمليات التنقيب الأركيولوجي في مناطق وادي حلفا، بخاصة في كولبنارتي ومينارتي وفرس وعبدالقادر، كما رافقته أيضاً في عملهما الكبير المتمثَل في التنقيب في قصر أبريم في النوبة المصرية.
كان بينها وبين وليام عروة وثقى اسمها النوبة رافقتهما حتى الممات، وكانت نيتي مثل زوجها تصرح علناً بأنه وإن كان ماضي النوبة قد جذبها إلا ان إعجابها بإنسان النوبة البسيط الذي تعايشت معه جعل قلبها وعقلها يتعلَّقان بالحضارة النوبية. وكانت تقول إنهما ذهبا للنوبة للتصدي لمهمَّة مستعجلة، حيث كان الجميع يسابق الزمن للحفاظ على الآثار المهددة بطوفان السد العالي، لكنها وقعت من أول نظرة في حب النوبة.
والشاهد أنَّها حتى بعد رحيل وليام آدامز قبل نحو خمسة أعوام، كانت كلما اتصل بها تستدعي الصفحات القديمة من ذاكرتها وتطوف بي بين الحبل والنيل في ربوع حلفا.
وكانت تتأسى على زمن حلفا الذي اختفت معه الطلاقة الريفية المترعة بالبساطة والإنسانيات.. وفي السنوات الأخيرة كانت نيتي تشكو من ضعف الذاكرة الذي يمنعها من الاسترسال في استدعاء الصور والأماكن والوجوه التي تطل من مرايا الروح، وكنت أشعر بها وقد انتابتها مسحة من الحزن لفشلها في إيراد الأدلة في أثناء الحديث، وهي التي أوقفت حياتها بحثاً عن الأدلَّة كعادتها. لكن فى كل الأحوال لم تسقط الذاكرة سؤالها المتكرر لي إن كان النساء في النوبة مازلن يحرصن على ارتداء الجرجار، الذى كانت تلم بتاريخه، وأصله، وفصله، وأشكاله، وأنواعه، وتفصيلاته، إلماماً تاماً يحير أبرع خياطة في نواحي عنيبة والجنينة والشباك. ولعلي أعترف هنا بأنَّها أحسَّت بضآلة معرفتي بالجرجار والأزياء والحلى النوبية، وأغدقت علي شخصي جرعاتها المعلوماتية الكبيرة.
وقالت لي مرة: إنَّ تفصيل الجرجار كان يستلزم أن يكون واسعاً وفضفاضاً وطويلاً من الخلف؛ ليغطي الأرجل تماماً، ويسحب معه التراب. وذلك ما دعاني لاستدعاء مقولة ذكرها لي عالمنا الفذ الهادي حسن أحمد الذي كان منشغلاً بنوبيات شاعر الشعب العملاق خليل فرح الذي طلب من محبوبته في واحدة من قصائده النوبية أن ترفع الإزار عن الأرض قليلاً، ما يمكن تفسيره بأنَّه كان يتوخى ألا تمسح زوائد الجرجار الخلفية وقع أقدامها؛ حتى يتسنى له اقتفاء آثارها!
برعت نيتي في مجال المنسوجات النوبية القديمة، بخاصة تلك التي عُثر عليها ضمن الاكتشافات المهمَّة في مقبرتين، واحدة في كولبنارتي، وأخرى في مقبرة مقابلة لها بالضفة الشرقية للنيل. وربما تكون نيتي أكثر علماء النوبيات اهتماماً بالمنسوجات النوبية، والأنثروبولوجيا الفيزيائية عل الإطلاق. كتبت نيتي عن تداول السلع المصنعة الفاخرة في النوبة. وعن البرونزيات والأواني الزجاجية والسجاد و أيضاً الحرير في الفترة الكلاسيكية المتأخرة.
وقد أوضحت أنَّ تاريخ أقدم عينات الحرير التي عثروا عليها في قسطل في النوبة تعود لفترة ساحقة من التاريخ، وتبيَّن أنَّها من عدة ألوان، وعندما جرى تحليل خيوط الحرير، اتضح أنَّها من فراشة برية تنتج حريراً.
وشاركت نيتي زوجها في عمليات التنقيب في النوبة السودانية، وعملت مديرة لموقع التنقيب في قصر إبريم.
وكتبت نيتي عدداً لا حصر له من أوراق البحث الخاصة بتاريخ وحضارة النوبة، واشتركت مع زوجها في إصدار سلسلة مؤلفات بشأن أعمال التنقيب ونتائج الحفر في قبور كولبنارتي التي نشرت بشأنها كتابين. قدم الأول أوصافاً تفصيلية لأنواع القبور التي تقع ضمن سياقها النوبي في العصور الوسطى، والثاني عن القطع الأثرية، علاوة على كتابيهما المهمِّين عن قصر إبريم، إذ كشفا فيهما السجل التاريخي لموقع قصر إبريم استناداً إلى المصادر الأرشيفية بالذات العثمانية.
لقد كان عملهما في قصر إبريم تحوليَّاً، وكانت نتائجه يقينية من جهة كشف عبقرية الحضارة النوبية، وإسكات من كانوا يثيرون الشكوك بشأنها. وطوال تاريخه الممتد كان قصر إبريم أهم مستوطنة نوبية، وخلال العصور الوسطى كانت عاصمة إدارية للنوبة، ومركزاً للعبادة المسيحية؛ إذ عُثرت على ثروة غير مسبوقة من المواد الأثرية، شملت الوثائق الإدارية من مختلف العصور، وكذلك الاشياء المصنوعة من الخشب والجلود والمنسوجات التي نادراً ما يجري الحفاظ عليها، وجدت كلها محفوظة في مكان واحد داخل القصر دليلاً على ريادة الحضارة النوبية. كما جرى حفظ مئات العينات من المواد المكتوبة بكثير من اللغات المختلفة، ومن بينها اللغة النوبية. ولا غرو، فقد كان من بين الوثائق التي عثر عليها وليام آدامز وزوجته وثيقة البقط الأصلية الموقعة بين النوبة والعرب، وكنت سألت آدامز عما جال بخاطره لحظة اكتشاف اتفاقية البقط، وأذكر أنه نظر للأفق مليا ورد قائلاً: محمد ابراهيم أبو سليم .
في حياة نيتي وزوجها أغدقنا عليهما المديح لصنيعهما، وكانا يسعدان عندما ننقل لهما تقدير النوبيين لأفضالهما، وكان الاثنان منغمسين حتى الممات في الحلم النوبي.
ويقولان بانتظام إنَّ الحفاظ على النوبة يبدأ بالحفاظ على اللغة النوبية.
وسدرت نيتي في ضحكة طويلة عندما قلت لها: إنَّ تمسك النوبيين بهويتهم سيستمر في أسوأ الأحوال جيلاً إثر جيل؛ لأنكما كشفتما لهم ماضيهم الزاهي، وهم أي شعب النوبة يبجل الماضي، لدرجة أنهم لا يقولون عندما يستيقظون في الصباح: صباح الخير، مثل البشر، بل يقولون: هل كانت ليلتك هانئة؟
واخيراً، كرمت جامعة كنتاكي ومقرها في مدينة لكسينغتون الزوجين الراحلين بمنحة دراسية حملت اسميهما، بينما نحن للأسف ليس لدينا ما نقدمه لهما رداً للجميل؛ لأننا أصبحنا بلا دولة،
لقد فشلنا حتى في تعليم أبنائنا كيفية التعامل بشكل كامل مع التفسيرات التاريخية، وأخفقنا أيضاً في خلق قارىء نقدي ممتاز يفند الادعاءات الكثيرة في تاريخ البلاد؛ وصولاً للحقيقة التاريخية، بخاصة عندما أصبح التاريخ أداة تضليل يطوعها بعضنا في السودان بصورة قبلية شنيعة.
إن أفضل تكريم لنيتي وبيل هو قيام الشباب النوبي في قرانا بالعمل من أجل جعل فكرة الحقيقة التاريخية مسألة شعبية لمواجهة الاستبداد والهمجية والجهل في عصر ما بعد الحداثة، ومن اجل ترسيخها في عقول أطفالنا، وهم يواجهون مستقبلاً غامضاً ومخيفاً.
في يوم رحيل نيتي يزداد حاجتنا إلى النوستالجيا، حيث إشراقات التاريخ السابقة، في ظل حاضر قاتم ومستقبل لا يبشر بشيء محسوس.