سلام بروف د. عزالدين عمر موسى
أعتذر عن انقطاعي في التواصل مع شخصكم الكريم وكذلك قروب ” سوانح وطنية” الذي أنُشئ للحوار والتثاقف، وذلك بسبب سفري المتكرر وعدم استقراري وأُخرى تدخل في ” حبسني حابس” عن الانتظام في متابعة القروب مما حرمني العلم بمحاضرتك القيمة عن الجذور التاريخية للأزمة في السودان التي نظمها المركز الإسلامي باسييك بنيو جرسي بتاريخ ٧ يوليو ٢٠٢٤م ومن ثم لم أُشارك إسفيريا للاستفادة والتفاعل معها.
الحمد لله حصلت على المحاضرة من اليوتيب وشاهدتها وسمعتها بتركيز. نعم وجدت ذات البروف عزالدين الرائع المبدع في حديثه الذي ألفناه سنيناً في رياض الخير بالسعودية. وسعدت جداً في أنه حصرها في ال root causes تاريخيا وتفادي عن قصد وبفهم عدم الخوض في الراهن الذي هو متاهة، فركز على الجذور العميقة التي لم ينفذ اليها أحد، وإن تم كان لا يخرج عن العام دون تشخيص وتأصيل دقيق ، فظلت بعيدة عن العلاج ومن ثم كانت تنمو هذه الجذور من وقتا لآخر شجراً وعشبا تعيق الاستقرار والتوافق وحركة التقدم إلى الأمام.
نعم كما أشرت أنت في نهاية المحاضرة إن التفاعل كان متواضعا ولم يكن بعمق موضوع المحاضرة. فكانت الأسئلة والمداخلات على محدوديتها عن إفرازات الراهن المؤلم دون استنطاق المسكوت عنه من أسباب الصراع المتمدد منذ عقود، بل كانت بعض المداخلات عاطفية عن هذه الحرب اللعينة مع استبطان تهمة الغدر لأحد أطرافها ، والاستهتار وتبخيس شعار ” لا للحرب “، بينما الأمر في رأي أكبر من ذلك، وليس حصرا على إفرازات الحرب ومآسيها. فاذا غابت الحكمة اللازمة لمعالجة الخلافات بعدالة ، فالبديل المؤكد هو الحروب ، وهو تحدي قد يبني أو يدمر حضارة ومدنية قائمة. نعم إن الجذور التاريخية و الأسباب الحقيقية هي فساد واحتكار للسلطنه وإقصاء وتعالي ثقافي واجتماعي ، رغم أن كل أهل السودان هم هجين و استعراب تم في بيئة أصيلة ذات تاريخ قديم وجغرافيا لها تاريخ وثقافة، دون الاعتراف بذلك المكون الأصلي و الأصيل فيها.
نعم تظل الهوية وتوصيفها الذي لم يتفق عليه، قنبلة أوعدة قنابل تتفجر من وقت لآخر. فذلك البركان الكامن إذا لم يعالج بموضوعية وشجاعة بعيدا عن وهم العروبة وضدها، وإدعاء حمل راية الإسلام وحمايته سيتطاول أمد المشكلة. فالآية الكريمة تقول ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ” سورة الحجر الآية (٩) . والكعبة يحميها ربها وليس سدنتها الذين وُجدوا لخدمة قاصديها . وهل الإسلام الذي أنتشر بلا سيف (وهنا أقصد العقيدة وليس الفتوحات العسكرية ) بل بالقدوة الحسنة والتسامح بحاجة لفرضة بالتمكين سياسياً لمعتنقية من المواطنين وإقصاء الآخرين وتجريمهم بالكفر؟ وهل الإسلام يُحمي بقهر الآخر وتمكين المفسدين وحمايتهم لكونهم مسلمين ؟ إنها جدلية وإتهام بحاجة إلى نقاش بتجرد وصدق وصولاً للحل العادل.
لقد نوه البروف عزالدين الدين في بداية المحاضرة بأنه سيتناول الجذور التاريخية للمشكلة السودانية وليس الراهن و إفرازاته ، والتزم بذلك في محاضرته. أُحي فيه هذه الصرامة المنهجية ..
أحترام جدا الرأي الذي طُرح في المحاضرة والذي يدعو لتفويض العلماء لمعالجة المشكلة. لكن أجد نفسي لا أتفق معه، لأن هذا الحل لا ينزل إلى العامة السند الشعبي العريض لأي حلول ويعيد تفعيل دائرة إنتاج الصفوة الأفندية التي لا يدرك بعضها نبض الأطراف البعيدة والريف وهو الهامش موضوع الساعة على مستوى الدولة المحلي وكذلك العالم ومراكز القرار فية.. نعم إنه واقع لابد من الاعتراف به.
في رأي أن الحل يبدأ في الاعتراف بوجود مشكلة أولاً، وأن الحروب التي تنشأ ليست كلها عبثية كما يصفها البعض. و من ثم فإن تشخيص الأسباب بأمانة ودقة وشجاعة، ثم التنازل والتواضع والتوافق على إشراك كل فئات مجتمعنا المتنوع. كل ذلك كفيل بالوصول إلى صيغة يتراضى عليها الجميع مع تقنين وضبط الممارسات في التنفيذ بقوانين صارمة هو المخرج. نعم أُكرر أن لا يكون العلاج حصراً على الصفوة بل حوار مجتمعي حقيقي بمخرجات ملزمة قابلة للتطبيق. وأحيانا لا بد من جرعات دكتاتورية أو شوكة الحاكم العادل المنصف لترحيل المجتمع قسراً أو بالتراضي إلى فضاء جديد هو سودان المستقبل / السودان الجديد، الذي نادت به قوى سياسية ومسلحة وازنة ورأي عام وطني صاعد.
إن إشراك جميع فئات المجتمع يضمن الالتزام بمخرجات الحوار المجتمعي. و لأنه ربما جاء الرأي الصائب من عند راعي البهم أو المزارع أو العامل البسيط أو تلك الإدارة الأهلية والقبيلة المغضوب عليها، بلا سند أو مسوغات مقنعة. وشكراً للبروف الذي أصّر أن القبيلة واقع اجتماعي لها سند شرعي واجتماعي . كل ذلك في رأي يعني أن الحل ليس بالضرورة أن يكون من العلماء أو الصفوة، لكن الدور الأكبر لهذه الفئات المستنيرة هو صياغة مقترحات الحلول بشكل أمين وتضمينه في الدساتير وآليات الضبط والقوانين.
إن الزحف القادم مؤخرا من مجموعات ريفية وهامشية، فرضت نفسها في المدن وضايقت أهلها بمقاسمتهم الخدمات المركزية، وجاء معها استخدام العنف المسلح في فرض التغيير ، هو حتمية تاريخية في تطور المجتمعات، إذا كنا نقرأ تاربخ الشعوب و الحضارات قديما والمدنيات حديثاً. وإن تهكم البعض بأن هذه المجموعات لن تجلب العدالة أو الديمقراطية أبداً ، كلام فيه قصر نظر وتسطيح لسنن الحياة .ولابد علينا أن نفهمه في سياق البحث عن الحقوق والمساواة بلا مكابرة أو إستعلاء، وضرورة التعامل معه برشد وموضوعية لتفادي سلبياته العنيفة. وتجربة الجنوب حاضرة في أذهاننا والتي كان يمكن حلها دون هذه التكلفة العالية في الأرواح و هدر الموارد وفقدان جزء عزيز من الوطن ،بل أننا لم نستفد منها في إطفاء حرائق دار فور وجبال النوبة والنيل الأزرق والشرق الذي يغلي والشمال القصي الذي يتململ.
نعم إن منهج الإصلاح بعقلية متحللة من عقد الماضي، مع وصفة علاج تعيد بناء الثقة والاعتراف المتبادل لمكونات المجتمع هو المدخل السليم لتصحيح المعادلة المختلة في بلادنا. فالسلطة والقرار التي تسيدها الأفندي الذي لم يخرج إلى الريف ليتعرف على التنوع ويستصحبه في رسم السياسات والخطط ، بل أعتمد على إنطباعات غير واقعية كانت مخرجاتها تصنيفات خاطئة رسخها إعلام سياسي موجه بأن هذا ولد بلد وذاك أجنبي وافد رغم أصالته، فقط لإختلافات ثقافية ، لم يقدرها الأفندي الحاكم في المركز و آحاديته الثقافية التي ورث منهجها عن المستعمر الذي وضعها لخدمة أغراضه والقائمة على قاعدة ” فرق تسد ” وفي ذلك يتحمل المسؤولية كل الحكام الأفندية وبعض القوى السياسية التي عززتها بقصد وأحيانا بغير قصد.
شكراً ليك بروف عزالدين عمر موسى وأقول إن هذا النوع من المحاضرات الشفافة التي تغوص في جذور تاريخنا تحليلاً وتشخيصاً هي التي نحتاج لمعالجة المشكلة السودانية. ونشهد لك بمثاقفاتك الديوانية العلمية والموضوعية بالرياض والتي كان يؤمها علماء وأعيان البلد الذي نعيش فيه وهم يستمعون إليك باعجاب وإحترام. وفي ذلك فقدناك في الأيام الأخيرة، وإن انتقل إنتاجك النوعي إلى الوطن وأنت في مركز العز عبد السلام ذلك الصرح الثقافي العامر برواده في العاصمة الخرطوم.
جزاك الله كل خير ومتعك بالصحة والعافية ونقول ما شاء الله كنت في المحاضرة حيوياً تشع عطاء بلسان وصوت جاذب.موفق دوما..