تقديم
الشكر أجزله للجنة المركز الإسلامي فى باسيك فى نيو جرسى ،وللجنة المنظمة لهذا المنتدى، والشكر لكم أيها الحضور المتميز، ويسرني وأنتم نخب أن أقدمه منتديا لا محاضرا. والشكر لله أولا وآخرا على ما قضى ويسر، ونسأله التوفيق فيما سيجري.
تمهيد
أحسب أنك مثلي تساءلت فى بداية الأمر ما الضرورة للحديث عن الماضي، والسودان يشتعل ويحترق، والناس قتلى وجرحى والنساء تغتصب، والأحرار يسترقون، والبيوت تنهب، والأعيان تدمر، والعمران يخرب، والناس قسرا أو رعبا تهجر.
وكنت قبل هذا الإنفجار الكبير المعاش أظن أن حل المشكلة ميسور إذا قبل الناس بهوية سودانية جامعة. وقدمت عدة أحاديث فى الأمر، وأخص بالذكر ما نشرته هنا فى نيونيورك فى ٢٦ مارس ٢٠١٩م بعنوان “رؤى وأفكار حول الهوية السودانية”، بيد أنه بعد هنيهة قصيرة جدا نشبت ثورة شعبية عظيمة فى جوهرها وشكلها ووسائلها، ولم تلبث إلا قليلا، فاغتصبت ووئدت ولحقت بأخواتها فى سلسلة عجيبة غريبة.
هكذا هو الحال فى تاريخ السودان الحديث والمعاصر دون النظر إلى التحقيب الأوروبي.
سودان قمة مع المهدي ثم ارتكاسة فى أوخر عهد الخليفة، أعقبه استعمار ثنائي أناخ بكلكله، واشتعلت فيه ثورات متصلة خلال العقدين الأولين من هيمنته، وفى كل عام ثورة بخاصة فى جبال النوبة والجنوب ودار فور ..إلخ وتوجت بثورة ١٩٢٤م التى أجهضت ، وجاء مؤتمر الخريجين ثم أرهقت الانشقاقات كاهله، ولاح بارق أما مع اتفاق ١٩٥٣م وشانته توريت، وتعاظم الأمل مع الاستقلال وتبخر مثل ثلج فى يوم قائظ ماتعة شمسه، وتتابعت الانقلابات (الثورات) وذهب بنا الوراء إلى الوراء، ثم أخيرا ضاع الترقب الكبير مع ديسمبر الموءودة، ووقع الانفجار الكبير وحل البلاء العظيم، والخوف الآن من الهلاك المبير إن لم نحسن التدبير .
كان يتلبسني فى العقود الثلاثة الأخيرة خوف كبير من أن يصبح حالنا مثل الأندلس أو فلسطين، وكتبت عن الحالتين خواطر عديدة فى باب “صيد الخاطر” فى صحيفة الخرطوم ثم نشرتها فى كتابي “تأملات”.وتعمق هذا فى تجاويف قلبي، واستجن فى دخيلة نفسي لا سيما مع مشكلة الجنوب، ولما أستثيرت دار فور وما يجري الآن.
ويصور إبن الأبار البلنسي الأندلسي حالهم فى أندلس أمس وكأنه ينظر إلى حال السودان الحديث /المعاصر حين قال:
فى كل شارقة إلمام بائقة : :
يعود مأتمها عند العدى عرسا
وطلبوا النصرة من المستنصر الحفصي يناديه:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا
إن السبيل إلى منجاتها درسا
فسقطت بلنسية، وتدريجيا سقطت المدن واحدة أثر أخرى، إلى أن سقطت الأندلس ورثاها أبو البقاء الرندي :
لكلّ أمر إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
وشبيه بهذا رثاء سنار التى اجتاحها الجيش التركي المصري، وبكاها السناري :
آه على على بلد الخيرات منشؤنا
أعني بذلك دار الفونج سناراً
والدرس المستفاد هو إصلاح الذات قبل استنهاص الآخر . وهذا ما أشار إليه الأستاذ الجليل والشاعر العظيم أحمد محمد صالح يوم إتفاق ١٩٥٣ قائلا: “إنا اتحدنا فكان النصر رائدنا” .وذكر سببا واحدا لهتك الوحدة “لا تجعلوا للكراسي بينكم قيما”.ومن هنا جاءت هذه المحاولة لفهم جذور أسباب الفرقة والخلاف والتخلف والنزاع فى سودان اليوم لاجتثاثها من جذورها.