إن مثل هذا السعي العلمي ضرورة وطنية ملحة لأنه بغيره سواء أوقفت الحرب أو حسمت، ستنبت تلك الجذور مأساة أشد وأظلم وأفدح إن ظل السودان باقيا .ولعل لمثل هذه المعضلة جاء الأمر القرآني ليتفرغ طائفة من أهل العلم ليأتوا بالحلول الناجعة لها.يقول الحق سبحانه {وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.} (التوبة ١٢٢).ومثل مسعانا اليوم ضرورة وطنية ملحة ومطلب شرعي تنفيذه لازم.
والمتأمل فى الأزمة السودانية يلحظ أن لها جذورا تاريخية متعددة ومتداخلة ومؤثر بعضها على بعض، ولعله من المفيد طرحها فى خمسة تساؤلات أساسية، وهي :-
١- متى تشكل السودان كيانا سياسيا موحدا ؟
٢- ما الروابط التاريخية التراثية فيه ؟
٣-كيف تناولت المدارس المختلفة هذا التاريخ؟
٤-ما تأثير التاريخ المتجزئ على الواقع السوداني المعاش؟
٥- ما الطريق للعبور إلى مستقبل سوداني يجمع ولا يفرق؟
ا- تشكل السودان كيانا سياسيا موحدا
ما عرف السودان القطر الحديث/ المعاصر دولة تربط أجزاءه، ولا حضارة معروفة تجمع أشتاته بينما عرفت مكوناته بإسم المجموعات البشرية وربما الإثنية التى قطنته وأطلق عليها القدماء لا سيما اليونانيون أسماء تعني السواد فى لغاتهم، وأخذها التراث الجغرافي العربي الإسلامي فى العصور الوسطى وألبسها من الأنساب إلى حام بن نوح أثوابا ، وأحيانا تدثرت بالعروبة أنسابا زاهية ألوانها، وحفظ هذا التراث معلومات مهمة عن تلك المكونات مثل النوبة والبجة والفور….إلخ.
ولا أعرف، وكثيرون مثلي، أن المنطقة فى تكاملها عرفت بالسودان إلا مشمولة بغيرها ومضافة الى كلمتي “أرض” “وبلاد” مما ينفي عنها الخصوصية التى أعيت الشيخ حسن الفاتح فى بحثه بين الوضعية والاسمية.
ولعل الاستثناء الوحيد لهذا ما جاء عند السعدي فى كتابه “تاريخ السودان” والكعتي فى كتابه “الفتاش” وأحمد بابا التمبكتي فى مصنفه معراج الصعود فى حكم مجلوب السود، وجاراهم مجايلوهم من المغاربة فى إطلاق اسم السودان على منطقة السافنا فى غرب أفريقيا، وكلهم من رجال القرن السادس عشر ، وخالفوا من سبقوهم من علماء القرون السابقة أو اللاحقة لهم والذين أطلقوا على المنطقة الدولة الحاكمة أو الإثنية الغالبة مثل غانا ومالي والكانم وبرنو أو بلاد التكرور.
ومن المفيد الإشارة إلى أن مصطلح السودان فى الحضارة الإسلامية يقصد به اللون غالبا وليس الجنس ولا المكان ، وهذا واضح فى السفر القيم “اثر السود فى الحضارة الإسلامية” للرشيد خيون. ولا يرتبط هذا اللون بالعبودية فى تلك الحضارة غالبا لأن البيضان فيها أكثر من السودان، ولكن فى اسم الدولة الحديثة أعطى أحساسا بشيء من ذلك عند جماعة منهم بروف عبد الله الطيب ( بين النير والنور ١٩٧٠) ولكنه عجز عن إعطاء بديل موحد لمكونات الدولة الوليدة. ومن هنا يجب التساؤل عن وجود أمشاج بين تلك المكونات فى التاريخ والتراث فى غياب الوحدة السياسية وما مداها؟