الجذور التاريخية للأزمة السودانية (٥-٧)

الجذور التاريخية للأزمة السودانية (٥-٧)
  • 25 يوليو 2024
  • لا توجد تعليقات

بروف عز الدين عمر موسى

التاريخ المتجزئ والواقع المعاش

إن السودان الحديث/ المعاصر بتاريخه المتجزئ لم تقم فيه هوية جامعة، وسادت فيه الانقسامات المدمرة من عناصر شتى، مع أن الهوية فى أصلها تتكون من مجمل عناصر لا عنصر واحد كما أوضحه أمين معلوف فى دراسته المفيدة “الهويات القاتلة”.فما الذي منع ويمنع قيام الهوية الجامعة فى السودان الحديث/ المعاصر ؟
ويحتاج الكشف عن العوامل المعوقة استصحاب القضايا التى أثيرت والظواهر التى وضحت، علاوة على بعث المنسي حيا، وعدم الخشية من الكشف عن المسكوت عنه، لتكتمل الصورة، وليكون العلاج ناجعا،كيلا يكون الحال حال “البلف وبجى تاني” وإنتاج الأزمة مرة أو مرات أخرى.
ويبدو أن أس المعوقات يكمن فى غياب الدولة وثقافتها والحضور المتجذر لثقافة الرق، رغم تحريمه وإبطاله منذ مطلع القرن التاسع عشر، ثم إنه منذ انحلال دولة علوة وانفراط عقد الأمن والأمان كان اللجوء إلى “القبيلة” طلبا لهما أو توظيف طاقاتها، هذا علاوة على أن الفكر الإسلامي سيطر عليه فقه القوة منذ قرون متطاولة باستثناء التصوف.
إن أكثر هذه المعوقات تجلت بصورة سافرة فى مواجهة الحملة التركية لاستعمار السودان. أولها، لقد كانت المقاومة لها متجزئة كتجزؤ السودان نفسه. ثانيا،كشفت معركة كورتي عن التعانق بين عدم ثقافة الدولة، وسيادة روح القبلية، وهيمنة ثقافة الرق بوضوح وذلك حين رفض أهلها بقيادة الملك شاوش تسليم خيلهم لأنها سلاحهم ورمز سيادتهم، ولم يرضوا بفلاحة الأرض لأنها عمل عبيدهم. ثالثا،” هناك أكثر من دلالة فى “ثورة الضرائب” التى فرضها إسماعيل بن محمد على باشا واستوى فيها السيد الذاهبة سلطته وعبيد الأرض الباقي وجودهم ،وكان شعارها “عشرة فى تربة ولا ريال فى طلبة”، وأدت إلى مقتل إسماعيل باشا ، وختمت بالمذبحة الكبرى التى
ارتكبها الدفتردار الذى خلف إسماعيل، ووقر فى ضمير الناس نظرة سالبة للدولة وعم الشعور العام بأن الدولة شيء ،وهم شيء آخر ، ويعبر عنها مصطلح “ميري”بدلالاته المختلفة وأخطرها “الشيء السائب”.
كما أن العصبية القبلية رسخت عمليا ذلك التقسيم المهيمن مانعة لأي وحدة جامعة، مع أن أنسابها إلى الجد الخامس فيه مطلوبات شرعية إلا أن ما بعده فيه نظر، وبينت فى دراساتي السابقة إن هي إلا روبط اجتماعية متغيرة،غير أن الاستعمار البريطاني تركها مقسمة للبلاد، واستغلها إداريا لا سيما فى جمع الضرائب ( العتب والقطعان )وبعض النواحي الأمنية والقضائية. ومن هنا ينبغي وقفة مهمة مع ثقافة الرق وتأثيرها المانع للهوية الجامعة.
يقوم الرق على وجود سادة لهم رقيق يقومون لهم بالعمل، وفى السودان بطبيعته الزراعية فإن خدمة أولئك الرقيق ميدانها قطاعي الزراعة والخدمة المنزلية، ومن ثم جوهر ثقافة الرق عند السادة “حب التبطل وكراهية العمل”. وإن هذا لفاش حتى فى التصوف السوداني الذى أسهم فى بناء المجمع روحيا واجتماعيا بناء معهودا مشهودا ولكنك تجد فيه تلك الثقافة واضحة بينة فى العلاقة بين الشيخ والمريد ،ويصورها أحسن تصوير شعر الشيخ محمد الشريف، نور الدائم عند ما طلب منه ذم المهدي عليه السلام،وذكر له خصالا هي بمعايير ذلك المجتمع فضائل بما فيها من خدمة لشيخه من طحن وعوس واحتطاب وغيره، مع تكبير للضحى بوضوء الليل، وختم للقرآن فى سنة الوتر.
ولا عجب بعد كل هذه الوقفات أن يصاب السودان فى اقتصاده والمجتمع فى بنيان شرائحه وأن يؤثر على قيمه ظاهرة وخفية.
من كل هذه الوقفات فى تاريخ السودان/ المعاصر وتراثه يستطيع ذلك المتأمل أن يبصر فيها بعض الأسباب الرئيسة التى أنبتت روح الاستعلاء وتأصلت، وثقافة الإقصاء وتنامت، والكراهية وتعمقت، وتضخيم الذات وتعالت حتى جعلنا من أنفسنا أصل البشرية، ومهد الحضارة الإنسانية، وأرض الأنبياء ونسينا أن نسأل أنفسنا لماذا هوى بنا الردى إلى الردى فى عمق سحيق !! بل صرنا نفخر بأن أرضنا كانت فى القديم لغيرنا. وإن حدث وسألنا تحكمت فينا ثنائيات متضادة مبيرة مثل الوهم التراثي؛ أبيض وأسود ، مؤمن وكافر أو عرب وزرقة، غرب وبحر، غابة وصحراء. وأثرت هذه الظاهرة فى العمل السياسي المعاصر حتى أصبحت الانشقاقات فى الكيان السياسي الواحد سنة مقيمة حتى فى الطائفية المسيسة. والسؤال الذى يثور فى النفس، هل من طريق إلى مستقبل باهر يقوم على رؤية جامعة ؟

التعليقات مغلقة.