دخلت إلى مكاتب صحيفة “الصحافة” ذات يوم أحمل صورا من شهاداتي أبحث عن العمل. كان زميلنا في الجامعة عثمان نمر قد سبقنا للعمل الصحفي، رغم أنه خريج كلية الزراعة. لم تكن لدي معرفة قوية به، لكن قررت المحاولة. دلفت لمكاتب صحيفة الصحافة في شارع علي عبد اللطيف وسألت عن عثمان، أدخلوني له بعد دقائق. وقفت أمامه مترددا وبدأت في سرد كلام كنت قد حفظته مسبقا، رفع وجهه من الورق، قال لي بسرعة: إنت فلان اتخرجت وجايي تشتغل في الصحافة، ثم سكت. جلست إلى جانبه حوالي عشر دقائق، دون أن يرفع وجهه من الورق، تململت، فقال لي بنفس السرعة، أصبر دقائق. بعد حوالي عشر دقائق أخذني لمكتب الاستاذ فضل الله محمد: الزول دة كويس يا أستاذ فضل الله…شغلوا، ثم خرج وتركني في مواجهة الأستاذ فضل الله.
كدت أولي هاربا، فما تخيلت أنه سيتركني في هذا الموقف ويخرج، سكت دون أن أنطق حرفا، رفع الاستاذ عينيه ونظر لي، قال كلمتين: نحن بنجرب الزول بعد ذلك نقرر يشتغل معانا أم لا، خلي عثمان يوديك لعراقي.
أومأت برأسي وخرجت مضطربا عائدا لعثمان نمر، عرفت أن الأستاذ بابكر العراقي هو رئيس قسم التحقيقات، قلت لعثمان أني لا أريد العمل في التحقيقات، أساتذنا من جهابذة الإعلام المصري الذين تتلمذنا على أيديهم، سواء مباشرة في الجامعة أو عبر المتابعة والقراءة، أجمعوا كلهم أن المدخل للعمل الصحفي هو في قسم الاخبار ,,,,,, وصرفت عربي كتير. أقنعني عثمان بعد جدل طويل بأن العمل في التحقيقات لا يمنع التعاون مع قسم الاخبار…وقد كان
كانت تجربة العمل مع أستاذ عراقي في بداية العمل الصحفي أقصى ما يتمناه الصحفي المبتدئ، كان بالقسم عدد كاف من الصحفيين لتغطية عمل القسم خلال الاسبوع، لهذا كان لدىه الوقت ليقرأ ويصحح ويناقش، ثم يعيد لك ما كتبته لتراجعه وتعيد كتابته مرة أخرى. لم يعد هذا هو الامر في السنوات الأخيرة، إما أن يتم نشر ما يجلبه الصحفي المبتدئ كما هو، وأما أن يحال لمحرر عام ليعيد صياغته بسرعة ويتم نشره.
كانت الجريدة خلية نحل وملتقى رموز وأعيان المجتمع، مدير التحرير الاستاذ شريف طمبل، سكرتير التحرير الاستاذ نور الدين مدني، رئيس قسم الاخبار الاستاذ توفيق صالح جاويش أشهر مخبري الصحافة السودانية وملك الطرافة والنكتة الحاضرة، في المنوعات الاستاذ فؤاد عباس، في الرياضة أحمد محمد الحسن ودسوقي وحسن عز الدين، في الاخبار الخارجية الاستاذ الكبير محمود بابكر جعفر “عمو”، في الاقتصاد الأستاذ حسن أبو عرفات، ومجموعات من الصحفيين من أجيال مختلفة في مختلف الاقسام، مجرد محادثة أحدهم في أي يوم أو ملاحظة عابرة تكسبك معلومة وخبرة. كنا مجموعة من خريجي الإعلام غزونا الصحيفة في وقت متزامن، وكان العاملون بالصحافة خريجي كليات مختلفة، وأكثر من نصفهم لم يدرس في أي جامعة، لكننا كنا نعلم يقينا أنهم اساتذة و”أسطوات” في العمل الصحفي ويجب أن نتواضع ونتعلم منهم.
كان الحماس يدفعنا لمزيد من العمل، تحقيقين في الاسبوع، ثلاثة أو أربعة أخبار لقسم الاخبار، مساهمات في المنوعات والشؤون الحارجية وحتى الرياضة. دخلنا في وقت واحد ، شخصي وراشد عبد الرحيم وعطيات عبد الرحيم ولحق بنا محمد الشيخ حسين، وسبقنا الصديق محمد محمود راجي. وجدنا مجموعة من الأساتذة الصحفيين والصحفيات سبقونا بفترات متفاوتة وكانوا خير عون لنا، عدا واحد كان يقابلنا بالسخرية ” هي الصحافة بيدرسوها..؟ الصحفي بيولدوه من بطن أمه صحفي”. هذا طبعا اعتقاد شائع ولا أجد غرابة فيه، ما زال البعض يستنكر دراسة الموسيقى والدراما تمثيلا وإخراجا وبقية الفنون.
كونت ثنائيا مع الصديق محمد محمود راجي، كان راجي قد تم تعيينه قبل وصولنا، وكنت أنا تحت الاختبار والتدريب. وخلال الستة أشهر الاولى حققنا ثلاث خبطات صحفية كبيرة في مجال الاخبار الخارجية، بمقاييس تلك الايام التي لم تكن فيها فضائيات أو انترنت وموبايل. كان الاعتماد على الإذاعات وما تقدمه لنا وكالة السودان للانباء “سونا”.
قصفت الطائرات الاسرائيلية مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، حين تم إعداد ماكيت الصفحة الأولى كانت التفاصيل قليلة، لذلك كان خبرا صغيرا في ركن الصفحة الأولى. كان لدينا عمل يبقينا في الصحيفة حتى المساء، تابعنا التطورات ووسعنا الخبر من الإذاعات ومن أخبار سونا، ولم يكن سهلا التواصل مع رئيس ومدير التحرير، لذلك أخذنا الماكيت من الدرج المخصص له، وأعددنا ماكيت جديد وضعنا فيه هذا الخبر رئيسيا، ووضعنا الماكيت الجديد في الدرج. المهم بعد غضب محرر السهرة وتهديده لنا، لم يجد بدا من تنفيذ الماكيت الجديد بعد أن أشهد كل من بالدار.حضرت صباح اليوم التالي متخوفا من المساءلة، ومر اليوم عاديا والذي بعده. في اليوم الثالث كان الاستاذ فضل الله يتحدث عن ضرورة المبادرة في العمل الصحفي وعدم انتظار التكليف، ثم ختم حديثه بالقول ” الولدين ديل عملوا حاجة ما بطالة قبل يومين”. تلقينا التهاني بعدها من الزملاء الصحفيين الذين قالوا لنا أن أعظم إشادة يقدمها الاستاذ فضل الله هي وصف “ما بطال”..!. بعد مبادرات متشابهة طالب الأستاذ حسن أبو عرفات من رئيس التحرير بضرورة تعييننا لأننا اثبتنا وجودنا، وفوجئنا بقيادات الصحيفة يردون ” هم ما معينين، والله افتكرناهم اتعينوا زمان” وتم تعييني في نفس اليوم مع عدد من الزملاء.
الصور: فضل الله محمد، حسن أبوعرفات، طلحة الشفيع