كان شابا، حسن التقاطيع، جميلاً، تراه جالساً إلى مكتبه، عبر حاجز الزجاج، في الطابق الأرضي، في زاوية عمارة (أراك)، الزاوية المتجهة نحو الجنوب الغربي تماماً، الجامع الكبير، يقف عبر الطريق الذي يعج بالسابلة، والمجذومين، وجمهور في محل المرطبات المجاور، لا ينفك يتعاظم، كلما اشتدت قبضة القيظ، وذبل عزم النسيم، وشعوب تذوب في الغبرة، هنالك على مد البصر. وكانت هنالك موسيقى، تبث من أقراص ملونة، تندفع للخارج، لاهثة، كلما دخل أو خرج أحد من المكان، كانت تندلع من السنين، والساقية، والعنبة، وأرض الحبيب، وجسمي انتحل، ونور العين، والمراية، وابتسامة مرتسمة على وجهه، فكأنه قٌدّ من الفرح، أن أنه قد خلق ليعيش ابدا، حتى قرأت نعيه على صفحات السوداني، وأنا صحفي حديث عهد بالمهنة، فانفجرت كل الأغنيات التي حفظها في الشمع، في عقلي، مثل عاصفة، الكنينة يا رطب الجنينة، والشعر جار لحنتو تحتو، والوسيم، أسمر جميل فتان، حليلو قال ناوي السفر، حين اسدل الموت ستره، على الرجل وابتسامته الوضيئة.
في يوم زواج آسيا، جلس الرجال في الصالون، نهاراً، وجاء (على الزبير)، محضر العملية في المستشفى، يحمل الجهاز، كنت طفلاً، أتعرف على الدنيا، النساء والرجال، ونحن سودانيون، جند الله، ورجال كالأسود الضارية، واهتم الناس بعلي، وما جلبه من فرح في معيته، غني إبراهيم عوض، على غير عادة الراديو، يا زهرة نادية، نادية في خيالي، بصحبة جيتار كهربائي، وكان ذلك فتحاً من (ود الحاوي)، من على سطح القرص الملون، الذي أخرجه على من جورب ورقي، عليه صورة الفنان، بتصفيفة شعره المعروفة، صورة ملونة، غير ما اعتدنا من الأبيض والأسود، ثم انصرف القوم إلى لعب الورق، وبقيت الصورة والصوت راسخين في عقلي إلى أمد بعيد، وسكنا ذاكرة الروح التي تسمى الوجدان، وكلمة (منصفون).
الخرطوم في مدارها المثلث، الجدي والسرطان، ومكتبة النهضة، شارع الجمهورية، وسفريات الشمس المشرقة، جنبرت، بمبو، وميرزا، وفي قاعة الصداقة، جلسنا في صمت يتحدث بصوت مسموع، وبصيرة تحدق فينا بوقاحة، وبجانبي، كانت، حين أهل بقامة فارعة، ودوى المكان بعاصفة التصفيق، ولهثت أجاريه في الركض، في زمن يحتاج منا لزمن، يؤكده، في قوله، العمر زادت غلاوتو معاك، لم التفت، حتى لا أصاب بخيبة الأمل الذي يخلفه الحلم، وارخت ذؤابة الطرحة، دون وعي، من حرج، أو التوب لا أذكر، وتعرقت راحتي، والخرطوم في انتظام انفاسها، تغيب وتصحو، تهيم فيها الحافلات، من أعاليها لأسافلها، ودور العرض، تحمل الناس، فوق الوهم، والتمنى، والإنصراف، وتثفلهم إلى واقع خارج جدرانها، ومقاعدها الحديدية الميتة، ونشوتهم الموقوتة، في اركان الحدائق المظلمة، وباعة آخر النهار، الباسطة البائرة، والأرغفة التي فقدت معنى الحنطة. جلسنا متلاصقين، مصلوبين على جدار الأغنية، كنحت لم يكتمل، كعبارة بلا معنى، وفعل بلا جدوى، كقصيدة فقدت تفعيلتها، كهتاف، كصدىً لعناق الرهو بين المدارين، يفزع الطير، والرخويات والملح، من هوله، أشكو ليك من جور زماني، شوف براك شوف الزمن كيفن بسو، يدور القرص، ويدور، من عهد البازار، وعزة في هواك، وحتى زمان، عقد الجواهر، نظرتها في الظلمة، حين سكن الزعيق، والصفير، وآهات المثخنين بجراح الغي، اقدلي، إلى ساق الشتيل الني، وتهاويم التجاني الصوفية، زي سحابة صيف، قالت، دي حاجة عجيبة يا ابو السرة، فزاد لهاثي، ولم أمسك بطرف من الحافلة، إلا وسكنت في خاطري، أغنية، أمسكت بطرفها لأنجو، لمحة غزل، ومجرد أمل، إلى آخره مما يقول الشعراء…..
تاج السر الملك 08/2024
يتبع