لمقدمِ الشتاءِ طعمُ انتظار العفو عند سجينٍ. ورياحٍ في مطلع الصباح تصافح التراب، فينثني منها، صاعدًا، مثل ثوبٍ رهيفٍ رقيق، غيره غير مقدم الصيف. حين يستوي الرجال ليرحمهم الله، وتصعد الرياح بالتراب كالمدى الحادة المحددة. وفي المساء يستعينون بالصلاة القائمة، أو رحيق الكحول، يفسح دربًا إلى الامنيات الشاهقة. يتجولون كما يودَّوْن؛ قياصرةً في جنان عرضها السموات والأرض، من الخزان الى الخزان، ومن النهر الى توتيل. ومع مشرق الشمس، تعود إلى الحياة سيرتها الأولى. يتوقف صوت الطبل البعيد الآتي من رحم المدينة. تنقطع أصوات المنشدين المليئة بالشجى والذكر. وما الذكر؟ بحر العلوم، ودمدني، حي يا قيوم، والشيخ ضرب محمد على أم رأسه بالسوط، وأمر الجني صاحب “البنقو” بالخروج، فخرج.
تلك معجزاتٌ صغيرةٌ، مثل العشب ينمو على أطراف أعمدة التلغراف في دار صباح. والشعب يغير النظام، ويعاود الجيش الكرة مرة أخرى. فكأنما حياتنا لا ينتظرها مستقبل، وكأننا نقتات على مارشات الجيش. ونساء محو الأمية يَفْكُكْنَ الخطَّ في دهشةٍ وعجب، ويمشين على استحياء. وآسيا تعلمت الضرب على الآلة الكاتبة. تجلس في مكتبها بالري والحفريات، مثل ملكةٍ متوَّجةٍ، تطّلع على أسرار العالم.
جاء “ختم” بقفةٍ وملاءةٍ بيضاء لنحضّر الأرواح. لشد ما وثقنا في تفقهه وعلمه الذي يفوق مداركنا، والإثارة التي يحملها معه أينما ذهب. لم نكن ندر أيًا من الأرواح سنستدعي. ولكن كمالاً كان قد ابتلعه النهر، فعششت صورته في مخيلاتنا طويلا. وضعنا حجرًا في قعر القفة، حتى نُودِينا للغداء. فأرجأنا الرعب ليومٍ قادمٍ. وقالت أمي: “سلامٌ قولاً من رب رحيم”. في المساء تحول شجر البان إلى عماليق يمشون في السماء والشهب الراصدة. تهاوشوا في مزاحٍ ثقيلٍ حتى انفلاق السواد عن زرقةٍ داكنة. ورماديٌّ أسفر عن فضّةٍ. وبعضُ عقيقٍ يرقد في أمان الأفق. وصاحت أختنا الصغرى المسماة، “طيرة المغارب”، كعادتها كل يوم: “أنا أنوم وين”؟
ينهض عمال اللقيط وعمال الحديد وعمال الخشب، والتلاميذ والعتالة وعبيد اليومية، والسوق. ويُنفخ في البوق، وتهتز المدينة مثل قطٍّ مبتل. فلا تتبق قطرةٌ من الماء على ملمسه الأملس. الفلاتيات جئن، “حاجة آسيا كُراع جدادة”، و”حاجة درجة”، و”حاجة عشة قصيرونة”: “سنُّو .. سنُّو آفيا”. يحترقن بالشوقِ إلى نبيِّ القبةِ الخضراء. ويحملن إصرًا على نبيِّ بيافرا “فيلا كوتي”، والجالس في عصر تفسخه؛ “ياقوب قاوون”. لا يحفلون كثيرا بأنبياء أب حراز، وطيبة، وفداسي، ورفاعة، والمسلمية. حلمٌ يوتوبيٌّ يتبدد، بين حلة محجوب وحلة زنقو، وطريق التراب الممتد الذي ينتهي بالطاحونة. حياتهم ومعاشهم ومماتهم، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا.
والعيوش يجلبها القاسم من حلة الشريف يعقوب. وعبد العزيز المصري الذي كان يبيع معها سرائر ماركة علامة النخلة الشهيرة. وقدورة الحضري، وعم عبد الوهاب، وهذا ما أدركنا من علم اسمه. من القضارف والمطارف تأتي العيوش، “وزن عشرة” و”المقد” و”ود عكر” و”الفتريتة”. ومن عمق التراب الأسود اللزج، واسم الأب والإبن والروح القدس، “عادل وليم” يا حليلو. غنى فتحي من أسىً طفوليٍّ حين ارتحل صديق طفولته الى الخرطوم، جالس على “البيارة” وحيدا. لم نكن ندري من أي عهدٍ يتدفق ماؤها. بيد أنه عذبٌ رقراق، مندفع كالسيل، بقايا مما صنعه الإنجليز. نغسل فيه أقدامنا الصغيرة. نغسل وجوهنا ونشرب منه مثل العصافير. ونتركه يمضي عنا، ليسقي حديقة بيت مأمور السكة الحديد. وفي طريقه إليها، يسقي الشجيرات بنات الحرام، والأعشاب التي يسكنها “القَبُور”، والجهنميات، والعوير، والريحان، والتمرهندي والزونيا والنبق الهندي. ويسقي في ما يسقي، موسيقى عالم الرياضة، حين يحل موعد الغداء. منه يصنعون شراب الحرية كولا، والحرية برتقال، وحرية بيضاء شفافة، لا أذكر لها اسماً.
في طرف من ميدان الكرة الذي كنا نري عبره، دكان عبد الرضي وبيت دار السلام. بنى الختمية زاويةً، وانبنت المدرسة في وسطه. فانحجب مشهد البيوت القائمة على جرف النهار، وانتفي دكان عشة بت ضحية. لانزال غرباء. كنا حين حططنا أوزارنا قبالة الدرادر، قادمين من “الفريق”، خلفنا فيه ميلادنا، جيرةً خيّرةً، ورحلات الجنجبيرة في قيظ النهار، الى دكان اليماني القابع خلف كلية المعلمات. ننام على هدير ماكينات شركة النور، وأصوات القطارات. نحس بلسع الكهرباء حين نلمس الحوائط المبللة، بمطر البارحة، والسماء تصفو وترق، وكأنها لم ترعد للحظة. سويعاتٌ مضين، والنساء يرقبن الرجال عجبًا في “أبرولاتهم” الزرقاء الداكنة. والممرضات والممرضين في أزياءهم البيضاء، وبشرتهم السمراء النظيفة، وإبرهم الحادة الطويلة. وشعب ينتظر في الخارج على الكنبات الخشبية، حتى ينادى عليهم مناد. وفي طرقات المستشفي شجرٌ كأنما نمى صدفةً. وعنابر يتمدد الناس في أسرتها، وفي خارجها تجلس نسوة، يتحدثن بأصواتٍ عالية، فكأنما يبددن خوفهن شذر مذر. يمنحن الخفير كوبًا من الشاي فيهدأ عن ملاحقتهن. وعبد السلام يبيع الزجاج الفارغ في المدخل، تمر من أمامه حافلاتٌ تحمل أناسًا وتعود بآخرين. يوازي طريق عودتها، شارع “اتجاه واحد”، يسد مجال الحركة، فيه مادحون من أهل القرى، يتأهل من بينهم فنانو “ماندولين”، حين يعز العيش ويتأبى.
ليس أجمل من أن تلبس أجمل ماعندك من ثياب، بعد انحباس المطر. يحملك بين يديه زهوُ نقيقِ الضفادعِ ووسيسِ الجنادب، تتقافز بين برك الماء والطين مثل بهلوان. وفي الظلمة، وكأنما بعينيك أشعة ليزر مثبتة، تتخير اليابسة، حتى يكذبَ ظنك. فيسبل عليك الطين لباسه، وتغلفك ضحكات الصبية، عامرةً بقداسة أغنيات الأمهرا. كم يطفر الدمع حين تتدفق لتغمر أذنيك وقلبك؟ فكأنما الريح الاحمر في هوجته، يرجّك رجّا. بل يهزك هزا، فأنت والأثير صنوان. وبخر الماء والسحاب، والألوان في نزق مزاجها. والحياة والبعث والنشور، وسطوة السماء والعطر والقطر. الوجود والعدم، ونشوةُ الشوقِ ساعةَ الرحيل. أنت، والمهديُّ المنتظرُ تكون. الفقراء ينهضون كغبار صباح الشتاء. أعذب في رقته من سابقيه. هذا فؤادي أمنحك كلما تبقى منه، حتى أسمع طُرفةً من طُرَفِكِ العذبة.