«ما كتير الناس بترحل
لي ظروف فى الدنيا أجمل
ناس بتمشى سنين طويلة
وناس بدون ما تمشى توصل».
فى ذلك النهار القائظ من صيف 1980م، وفى تجوالى داخل موقف بصَّات السوق الشعبى بالخرطوم، وحين كنت أحاول أن أمتص قلقى بقراءة تلك الكتابات التى تكتب على البصات واللوارى؛ استرعى انتباهى هذا المقطع الشعرى الذى لا يشبه نوع تلك الكتابات. هزنى هذا المقطع الشعرى الجميل؛ فوجدتنى أكتبه على صندوق (برنجي) كان ملقى تحت أقدامى، لم أكتف بذلك بل قادنى فضولى المشحون بالطرب لأن أسأل سائق البص الذى كتب على ظهره هذا المقطع، سألته عمَّن قال هذا الشعر، طبعاً لم أجد إجابة على سؤالى ذاك، بل حظيت بنظرة استغراب رشقنى بها سائق البص، تخليت عن صندوق البرنجى بعد أن قرأت المقطع الشعرى مرات و مرات؛ حتى احتفظت به فى ذاكرتى، و صرت أردده كثيراً كلما طلب منى الأصدقاء أن أقرأ شعراً، وحين أُسأل عن شاعره أقول إنه شاعر مجهول وإنى التقطت هذا المقطع الشعرى من على ظهر بص فى السوق الشعبي بالخرطوم. تجول معى هذا المقطع الشعرى حتى إننى استخدمته فى مسرحية (حب على الطرلقة السودانية) تأليف وإخراج الفاتح مطيع، مضيفاً إياه إلى دورى فى المسرحية، وأكون بذلك خرجت «مع النص» ولم أخرج عنه». كان ذلك حين عرضت جماعة السديم هذه المسرحية وهى تتحسس بداياتها على مسرحمدزسة الدامر الثانوية بنات و بمدرسة ابتدائية بمنطقة العالياب، بعد العرض جاءنى مشاهد كى أكتب له هذا المقطع الشعرى، و تكرر هذا الأمر حين انتقلنا بهذه المسرحية إلى قرية (العالياب) على مسرح المدرسة الابتدائية.
هكذا تجول معى هذا المقطع الشعرى الجميل الذى ينضح بالحكمة دون أن أعرف شاعره، حتى جاء ذلك اليوم الذى كنت فيه فيثى مدينة ود مدنى، و فى منزل الصديق الفنان الموسيقى المتميز الفاتح حسين، جاء شاب طويل القامة، قلق، به مس من فوضى أليفة، عذب الحديث، ونَّاس، كثيراً ما يميل إلى الضحك. و وسط جمع من الأصدقاء عرفنى به الفاتح حسين قائلاً «الشاعر جمال عبد الرحيم». وحين امتدت بنا الأحاديث وتناثرت؛ فوجئت بذلك المقطع الشعرى يندس بألفة شعرية فى نسيج قصيدة جميلة كان يقرؤها علينا الشاعر جمال عبد الرحيم، استعمرنى فرح خاص فى تلك الليلة؛ فها هو المقطع الشعرى الجميل الذي تجول معى لأكثر من عامين يأتينى مندغماً ف قصيدة عذبة وبصوت شاعره الذى كنت أبحث عنه.
«ما كثير الناس بترحل
لى ظروف فى الدنيا أجمل
ناس بتمشى سنين طويلة
وناس بدون ما تمشى توصل».
الشاعر الغنائى جمال عبد الرحيم، يسكن مدينة ود مدنى وتساكنه، فى نهاية السبعينيات من القرن المنصرم؛ ذاعت بين الناس، وذلك عبر الراديو، أغنية بصوت مغنٍ يقال له (الرشيد كسلا)، الأغنية هي (رماد الذكرى)، وفيها تصاعد درامى يستند إلى تكرار التنغيم والكلمات:
«لا يلاقينا لا نتلاقى
لا يلاقينا لا نتلاقى
لا يلاقينا لا نتلاقى
لا نتلم».
كان أول ما سحرنى وأنا أستمع لهذه الأغنية؛ مطلعها:
«رماد الذكرى
لو صحَّاك
ما تندم».
هذه الأغنية للشاعر جمال عبد الرحيم.
*(( انا أسف،فقد نسبت اغنية (رماد الذكرى) للمغنى (الرشيد كسلا) للشاعر جمال عبد الرحيم و حين نشرت هذه المنمنمات عن الشاعر جمال عبد الرحيم كتب لى الصديق عادل السعيد و كذلك الصديق مجذوب عيدروس ليوضخا لى ان شاعر قصيدة (رماد الذكرى) ليس هو جمال عبد الرحيم و انما هى لشاعز من مدنى هو الشاعر(صلاح خيرى) و يبدو ان سبب هذا الخلط الذى وقغت فيه هو ان النغنى (الرشيد كسلا) قد انضم الى حلستنا تلك الحميمة فى منزل الموسيقار الفاتح حسين بحى (دردق) فى مدنى و قدجاء برفقة الشاعر جمال عبد الرحيم و قد جمل تلك اللية بغناء (رماد الذكرى) بطلب من الشاعر جمال عبد الرحيم و تلك ليلة لا تنسى من ليالي عيد القطر و قد كنت اقضى ذلك العيد مع الصديق و الزميل الفنان المسرحى و الصحفى عادل السعيد محمود فى بلدته (الدناقلة) و التى جئنا منها الى حى (دردق) لزيارة صديقنا الموسيقار الفاتح حسين و من ضمن من لا انساه فى تلك الليلة الحميمة المغنى الراحل(مكى شقى ) .)))
جمال عبد الرحيم طاقة شعرية قد لا يعرف الكثيرون تجلياتها. عدد من الأغنيات الجميلة التى ميزت تجربة الفنان (النور الجيلانى)، منها تلك الأغنية العذبة:
«أصلو يا عصفور ده حالك
من ما سويتلك جناح
يعنى كان صارحت مالك؟
نحن ما بينا الصراح
كان ضميرنا ارتاح وحاتك
وشلنا ليلنا على الصباح».
وكذلك أغنية (صحو الذكرى المنسية):
«صحو الذكرى المنسية
من بعدك، وين الحنية؟
بتعدى مواسم و تروح
والفرقة بتصبح أبدية».
الشاعر جمال عبد الرحيم يتميز بغنائية عذبة و قادرة على الدخول فى مناطق جديدة، تلك المناطق التى تلامس القضايا الحيوية والكبرى التى هربت منها الأغنية المترهلة إلى حيث تلك المناطق المألوفة والمكررة التى تستند على جدران متهدمة من الخيبة العاطفية.
الشاعر جمال عبد الرحيم استطاع أن ينتقل بالشعر الغنائ إلى براحات مختلفة، واقترب بقصيدته وبحساسية عالية تجاه الدور العظيم الذى تلعبه الأغنية الجديدة، تلك التى خرجت على السائد والمألوف من الغناء وشكلت ذائقة غنائية جديدة واجترحت للأغنية أدبيات لها القدرة على الخلود. ومن القصائد الغنائية المتفردة فى تجربة الشاعر جمال عبد الرحيم؛ أغنية (صوت الاستحالة) التى تتغنى بها مجموعة عقد الجلاد، وهى من ألحان الفنان حمزة سليمان، هذه الأغنية نموذج حى وحيوى لانتقال كلمات الأغنية إلى موضوعات جديدة، وأصبحت بذلك ذات حيوية مشاكسة تهزم المسلمات وتبعث على التأمل، هذه القصيدة الغنائية تباهت بمعان جديدة وبتعبيرات شعرية تمتلك قدرة أن تلامس حتى تلك التعقيدات التى هى إلى القضايا الكونية أقرب:
«المناظر هى ذاتا
والصور نفس المشاهد
الشوارع والبيوت
الأماكن والمقاعد
والزمن ثابت مكانو
والرقم اللسه واحد
وحشة الليل البهيم
ولمة الناس الحيارى
قصة الشوق القديم
بى دموعا
و بى حنانا
وقصة الولد اليتيم
و نفس صوت الأسطوانة
بكره مقتول
جاي مشلول
فى الدواخل
فجر كذاب
طل من خلف المراحل
باب قصاد باب
انسدو للفرح المقابل
دنيا تتغير
ودنيا أدمنت
عشق الثوابت
صوت ينادى استحالة
والحقيقة صوتا خافت
جرح ينزف
قلب دامى
ولسه صابر
ولسه ساكت».
لا أظننى في حاجة كي أشير إلى الصور الشعرية الكثيفة المعنى فى هذه القصيدة الغنائية، ولكن بالإمكان أن أشير إلى أن الشاعر جمال عبد الرحيم استطاع أن يفجر وبغنائية عالية قدراته على تأمل الواقع الراهن دون أن بفقد شاعريته وهذه واحدة من أهم مميزات القصيدة الغنائية الجديدة فى السودان، إنها قصيدة مفتوحة نحو التأويل، تهرب من جمود المعنى وترهل الصور الشعرية. إن القصيدة الغنائية فى السودان انتقلت إلى مناطق أرحب، وأنا أستعير هذا التعبير «مناطق أرحب» من الفنان المتميز زيدان إبراهيم حين سئل عن رأيه في أغنية مصطفى سيد أحمد فقال «مصطفى نقل كلمات الأغنية إلى مناطق أرحب لم نكن نغنى فيها». ولأن الشاعر جمال عبد الرحيم له هذه القدرة و لم يتم الانتباه إليه لا سيما وهو شاعر له إسهاماته المتفردة فى أن تكون القصيدة الغنائية فى السودان بهذا الثراء وتلك الحساسية المتأملة التى لا تكتفى بملامسة الواقع فقط؛ ولكن تصر على تعريته، على الغوص العميق في تفاصيله، على إدانته متوسلة بأنقى وسائل التعبير الجمالى؛ وهو الشعر، فها هي مجموعة عقد الجلاد تلتقى مرة أخرى بكلمات هذا الشاعر وأيضاً مع ألحان الفنان حمزة سليمان الذى ثبَّت خطواته فى مجال التلحين، وهي خطوات فى مشوار نجاح، تلتقي عقد الجلاد فى ألبومها (حاجة آمنة) مع الشاعر جمال عبد الرحيم من خلال قصيدة تتباهى بعنوان موحٍ وعميق و هو (بطن الحوت) لتلامس هذه القصيدة الواقع الراهن وتعريته من خلال قضية شائكة وهي أن يتحول التلاميذ والطلاب إلى أداة من أدوات الإنتاج الهامشى وتجبرهم ظروف الاقتصاد المنهار على الهروب من المدرسة إلى السوق، يتم كل ذلك بشاعرية عذبة دون أن يقود موضوع القصيدة إلى ذلك الترهل. ويوحى عنوان القصيدة بمرجعية إلى حوت النبيثى (يونس) مسقطاً هذا المعنى على الحياة فى السودان التى هى أشبه ببطن الحوت:
«قالوا العلم ملحوق
كتر الفهم ما بحوق
آخر الزمن يا ناس
ودوا الولد للسوق
قل القرش خلا
خاوى الكرش والرأس
وين قلمك المسنون؟
وين دفتر الكراس؟
قبال تشب سرقوك
جزوك في الإحساس
والتهمة بس فى مين؟
مثبوتة فى الحراس
ولداً قوي ومقدام
زيك حرام ينضام
إلا الصبر لا بد
يغلب قسا الأيام
فجر الخلاص قدام
حظاً سعيد للناس
يتوارى فى الأحلام
مسجون و قيدك فيك
منك متين ينفك
مبلوع فى بطن الحوت
مطبوق عليك الفك
شمس الحقيقة متين
تطلع تزيل الشك؟
ترجع قرايتك يوم
وإنت العليك الرك».
ها هو الشاعر جمال عبد الرحيم يرفد ويضيف إلى تيار الأغنية الحكاية أو الحكاية الأغنية، وأقول تياراً لأن هذا الاشتغال الشعرى بين السرد والقصيدة هو تيار قديم فى الشعر السودانى إذا تأملنا مسادير البطانة وأشعار الحكامات، ونلاحظه أيضاً مندغماً في أغنيات حديثة مثل قصيدة الشاعر صلاح حاج سعيد (لقيتو واقف منتظر) وصولاً حتى السرديات العذبة في قصائد الشاعر محمد طه القدال وشخصيات الشاعر محمد الحسن سالم حميد المروية تفاصيلها بالشعر مثل (عم عبد الرحيم) وللمغني الشاعر أحمد الفرجوني (عمنا الحاج ود عجبنا) التي يرويها مغنياً مصطفى سيد أحمد كما فعل مع (عم عبد الرحيم) و(الضو وجهجهة التساب). الشاعر جمال عبد الرحيم يضيف إلى هذا التيار أغنية مشحونة بالشجن هي القصيدة الغنائية الموسومة ب(عطبرة) وهى غنائية سردية شاهقة بين أغنيات عقد الجلاد:
«وأنا في القطار أصغر صبى
آمال تفيض متفجهة
لما القطار صفر وقف
بهرتنى صورة عطبره
ديثى محطة الوطن الكبير
قامت تضج متحضرة
نزلت ماشيثى على الرصيف
أغبش هدومى مغبره
الهجرة من زمناً طويل
زي ساقية فينا مدوره
عائلة أبوي عبد الرحيم
من حلفا جات متهجره».
وأخيراً أقول إن الشاعر العذب جمال عبد الرحيم يحاول دائماً الخروج من بطن الحوت كمعادل للقبح لينحاز بقصائده الغنائية المتميزة إلى حيث تلك المناطق الأرحب والمشرعة الأبواب نحو العافية والخير والحق والجمال، لذلك هو دائماً ضد ذلك الفجر الكذاب:
«فجر كذاب
طل من خلف المراحل
باب قصاد باب
انسدو للفرح المقابل».