بعد طول جدب وإدقاع أعادت “دكة الثقافات السودانية” بالدوحة، الحياة إلى عروق النشاط الثقافي للجالية السودانية بدولة قطر ، مفتتحة موسمها الثالث بليلة أحياها مساء السبت 14 أكتوبر 2017 في صالة “الهلال الأحمر القطري “المسرحي والقاص والشاعر يحي فضل الله، القادم للدوحة في زيارة قصيرة من كندا، بمشاركة الفنانين المسرحيين الكبيرين السني دفع الله وموسى الأمير بقراءات شعرية وقصصية من “تداعيات، وملأت شادية شباكها بالابتسامات” وهو كتاب الأستاذ يحي فضل الله الأخير الذي دشنه في الدوحة في تلك الليلة.
تأخر الحفل ساعة كاملة، ولكن حينما تكون في صحبة يحي فضل الله والسني دفع الله وموسى الأمير وذلك الجمهور الوسيم الذي حضر، فإن آخر ما تتذكره هو الساعة. على المنصة توسط يحي فضل الله الجلوس خلف منضدة طويلة، على يساره موسى الأمير وعلى يمينه السني دفع الله، في مشهد يوحي لك بجمود وجفاف تلك الندوات الطويلة المضجرة. ولكن، ما أن انتهي السني من الترحيب بالحضور وافتتاح الحفل، حتى تحول الحال بأكمله إلى حال آخر، وانفتح باب لعالم جديد من الإبداع مختلف تماماً.
في ستينات القرن المنصرم دفع المخرج المسرحي البولندي جروتوفسكي بنظريته حول “المسرح الفقير” ، وفي تراجم أخرى “المسرح النقي”، إلى الساحة. وتقوم تلك النظرية على أن عماد العمل المسرحي هو الممثل نفسه، وأن كل شيء بخلاف ذلك، من ديكور وإضاءة وأزياء وموسيقى ونص وألوان، أنما هو كماليات وزوائد يجب الاستغناء عنها والاكتفاء بجسد الممثل وحركته وقدرته على الأداء فقط. ولو كان جروتوفسكي حاضراً معنا احتفالية “تداعيات، وملأت شادية شباكها بالأبتسامات” ليلة السبت 14 أكتوبر 2017، لكان قد أوغل في رؤيته تلك، ولطالبنا بالاكتفاء لا بالممثل كله، وإنما بصوت الممثل فحسب. فبالصوت فقط، صوت يحي فضل الله الغليظ الجهوري المحدد والواضح المعالم، بلا لف أو دوران، وصوت موسى الأمير الهاديء، الوادع والحنون، وصوت السني دفع الله المهمهم والمغمغم والمتلون والمتآمر، بتلك الأصوات خلق يحي فضل الله والسني دفع الله وموسى الأمير مسرحاً كاملاً، حياً ودفاقاً وحافلاً بالناس والبيوت والأحياء والشوارع والأسواق والحافلات التي وقودها الشجار والحجارة .
تلك المنصة الجرداء تحولت إلى مسرح مكتمل العناصر، وتلك المنضدة اليابسة تحولت إلى خشبة شخوصها الحروف والكلمات التي امتلكت مشاعرها الخاصة، تحب وتكره، تستكين وتتمرد، تهمس ثم تصرخ، تتعارك وتتآلف، تسقط ثم تنهض، تبكي ثم تبتسم، وتحزن ثم تضح بالفرح.
لم تكن مجرد ليلة، وإنما كانت تجربة فريدة امتلكت عقلي وحواسي طيلة وجودي فيها ووقتاً طويلاً من التأمل بعد ذلك. شكراً يحي فضل الله وشكراً السني والأمير، شكراً دكة الثقافات السودانية، وشكرا جزيلاً لدرير شنقراي وعواطف حسين على الإبداع والدقة والحرفية في الإعداد والتنظيم.