دائما أجد نفسي لا أصبر طويلا على مشاهدة التلفاز، إذ تشدني فقط الأخبار والمشاهد القصيرة. حتى كُرة القدم إذا وجدتها أمامي، أتفاعل معها لكن بإنتهائها سرعان ما أنسي اللاعبين وحتى أسماء الفُرق. فيلم وداعا جوليا ذلك الحدث الجاذب كان غير .. نعم لقد أجبرني على مشاهدته على شاشة التلفزيون وأصبرعليه مشدوداً دون حراك ، نحو ساعة ونصف فأكثر. لقد عُرض هذا الفيلم وبنجاح في دور السينما السعودية بالمولات الكببرة وكذلك في الخليج ومصر ودولاً عديدة أخرى. فإنتزع هذا المنتج الدرامي السوداني إعجاب كل من شاهده، وأُوصي الآخرين بمشاهدته. لأنه يعالج قضية طالما أرقتنا جميعاً. وتكاملت القصة والإخراج والاداء ليكون الفيلم “The very perfect game Hunting ” في المعالجة حيث تم طعن الفيل وليس ظله بجرأة وكفاءة عالية.
” وداعاً جوليا ” هو فيلم سوداني من إخراج المبدع محمد كردفاني الحائز على العديد من الجوائز الدولية. وقام بدور البطولة المغنية الشهيرة إيمان يوسف وعارضة الأزياء وملكة جمال الجنوب السابقة شيران رياك. وشارك في التمثيل الشاب المبدع/ نزار جمعه الذي مثل ثقافة أهل الشمال المتعالية باقتدار. كما شارك في الفيلم /قير دويتي، الذي أختارته الأُمم المتحدة لشؤون اللاجئين سفيراً للنوايا الحسنة لشرق إفريقيا والقرن الإفريقي ، إضافة إلى عدد من المبدعين. الفيلم من إنتاج أمجد ابو العلا الذي مثل السودان بأفضل فيلم أجنبي عام 2020م بعنوان ” ستموت في العشرين” بحق الفيلم كان إبداعاً سودانياً نال أكثر من (17) جائزة دولية واقليمية. نعم صحيح أن الابداع والتميز يولد من رحم المعاناة ، فكان هذا الإنجاز النوعي المتميز رغم ظروف البلاد.
الفيلم عالج بحصافة عالية قصة مأساوية وهي العنصرية والتمييز والتعالي الثقافي على أساس الإختلافات الثقافية والأثنية بين مجتمعات شمال السودان وجنوبه. بدأ الفيلم بعبارة مثيرة وتجرج المشاعر في أعماقها تلفظ بها البطل عندما أندلعت المظاهرات وإشتعال الحرائق في العاصمة الخرطوم في أعقاب إعلان مقتل الزعيم الراحل جون قرنق، الذي تصالح الكثيرين مع رُؤاه في معالجة المشكلة السودانية السودان الجديد، العلامة أوالماركة السياسية المسجلة حصراً للحركة الشعبية رغم أن لآخرين ايضاً رؤية في كيف يكون السودان الجديد. فأستقبل الناس القائد جون قرنق في الخرطوم إسنقبال الفاتحين وأعتبروه الأمل بعد إتفاق نيفاشا.
بداية الفيلم كانت عرض لصور مشاهد الحرائق وعنف المظاهرات، التي وصفها البعض بتلقائية يحركها العقل الباطن بأنها وحشية ، دون الغوص في أعماق ردود الافعال التي ولّدتها جذورمشكلة متراكمة تاريخياً، وثقافة الرق و التعالي الإجتماعي، تجسدت فيما تفوه به بطل الفيلم من عبارة لاذعة ” كده ننزل نشوف العبيد ديل دايرين شنو ” وهكذا أراد مخرج الفيلم من البداية الإثارة وجذب الانتباه لموضوع الفيلم. نزل الزوج الشمالي من عليائه في عمارة حيث سكنه، متجاوباً مع أتصال زوجته التلفوني وهي تقود سيارتها لتبلغه أنها مطارة وفي خطر. فنزل وهو يحمل بندقية لحظة دخول زوجته حوش المنزل وخلفها موتر يقوده والد طفل صدمته هذه الزوجته وتركته خلفها متمدداً على الأرض. وتلك كانت بداية المأساة، حيث أطلق هذا الزوج النار على الجنوبي قائد الموتر والد الطفل فارداه قتيلاً. وسجلت الشرطة البلاغ تعاطفاً بأنه قتيل في المظاهرات مجهول الهوية. وأختفت أخباره عن اسرته التي ظلت تبحث عنه في كل المواقع أملاً في الوصول اليه.
رافق ذلك حزن وحالة ضياع لأم وطفل ظلت تتنقل بين ذويها المشردين والشرطة تطاردهم من موقع لآخر بجريمة صنع الخمور. وبفهم وثقافة ليست من ثقافتهم بينما هم يمارسون ذلك بفهم أنهم يعيشون من كسب عمل حُر. حكي لي أحد وهو شاهد عيان على مداهمة الشرطة لأوكار صنع الخمور، فقامت بتكسير معدات الصنع وإهراق الموجود من خمرعلى الأرض. فرفعت صانعة الخموريديها وهي في قمة غضبها تدعو على أفراد الشرطة ” شكيتكم لله”. أنظر إلى عمق إختلاف الثقافات ، كل يُجرم الآخر إنطلاقاً من فهمه المطلق وقس على ذلك أسباب تعقيد المشكلة السودانية لغياب الفهم المشترك.
نعود لفيلم ” وداعاً جوليا ” الذي تحملت فيه الأُم مأساتها بصبر، بينما بطلتنا الأُخرى كانت تعيش نزاع داخلها، وعقدة الذنب تلاحقها في صدمها للطفل وقتل زوجها لوالده وفي كل ذلك كانت الحقيقة غير كاملة . حصلت البطلة إيمان يوسف على معلومات ومحفظة القتيل من أحد إفراد الشرطة والمسجل لديهم مجهول الهوية بعد دفع بعض المال ، وأخذت تبحث عن أُسرته، فأخذتها الصدفة لتتعرف على جوليا التي يئست من معرفة مصير زوجها فتحملت مسؤوليتها في تربية إبنها بعد أن تشاقي من صدمته. وأخذت تمارس أعمال ببيع بعض الأشياء البسيطة في شوارع أحياء المدينة. وتطور الأمر بينهما من زبون يشترى منها بكرم عاطفي، إلى عرض للعمل لديها في المنزل. رحبت جوليا بذلك العرض لأنه يضمن لها وإبنها سكن آمن بعد أن فقدت دعم ذويها وضاقت بها الدنيا. ومن هنا بدأ الكرم وتدفق عاطفة بطلتنا الشمالية للتكفيرعن ذنبها والتصرف من وراء زوجها المتعالي سلوكاً وكله شك فيها. فأدخلت الطفل مدرسة خاصة ورعته، بإغداق الصرف عليه وكأنها تدفع دية والده الذي قتله زوجها، بفهم أنه كان يدافع عن عرضه ويحمي منزله من هؤلاء المتوحشين. وأخيراً يكتشف الإبن موتر والده الذي كان مخزوناً في بيت الجيران ثم أكتسف وكذلك ووالدته وجود محفظة زوجها المفقود في المنزل وفيها كل بطاقاته الثبوتية. وتلك كانت بداية وجع قد تجدد لدى الأم جوليا والمكاشفة التي حدثت بين جوليا والاسرة القاتلة التي كانت تستضيفها. وتتابعت الأحداث ولجوء جوليا إلى معارفهم في الحركة الشعبية وهي في قمة التحضير لإستفتاء الإنفصال، فحدث التدخل والمناصرة من قيادات الحركة الشعبية ،من ذلك القائد بقامته الفارعة ،في مشهد حاسم وتحول موقف جوليا كلياً في مناصرة إنفصال الجنوب عن الشمال والرحيل إلى جوبا مع نتائج الاستفتاء.
الفيلم كله دروس لمن أراد أن يعترف بأن لنا مشكلة عميقة في السودان وأن هناك مظالم وجذور تاريخية عددها البروف عزالدين عمر موسى في محاضرة الاخيرة في المركز الاسلامي بنيوجرسي بنيويرك في 7/يوليو2024م. حيث تناول فيها الجذور التاريخية للمشكلة السودانية بشكل جيد. تلك الجذور التاريخية نحن بحاجة إلى الإتفاق على معالجتها بجرأة وإمانة. وكلنا أظنه يمكن أن يعددها ،ومنها تناول بعض المؤرخين والكتاب الذين سجلوا وقائع تاريخنا بشكل مشوه. بل أن واضعي المناهج والسياسات التعليمية لم تراع التنوع الإثني، فعززت التباعد بين المكونات. وكلنا قرأ في المنهج التعليمي قصة حسن البطل .. حسن ولد العرب وما لها من تفسيرات سالبة لدى الآخر. وكذلك قرأنا أن العرب قد دخلوا السودان من ثلاث منافذ هي مصر / البحر الاحمر / والحبشة أمعاناً في التهميش لجهات أُخرى. بينما الحقيقة تقول أن المجموعات التي دخلت من جهة الغرب هي الأغلبية التي تسوح كل مناطق السودان الآن ، بينما منافذ الدخول الأخرى كان أغلبها للتجارة والدعاة، وهم ليسوا في حجم الاجتياح الهلالي الذي دخل السودان من الغرب الى الشرق في أعقاب سقوط الاندلس. مع ملاحظة إن الحراك البشري في إفريقيا وحتى داخل السودان في القرون المتأخرة كان من الغرب الى الشرق لأسباب عديدة.
أعتقد أننا في السودان أمام مشكلة معقدة ويزيد من تعقيدها ذلك المحمول الثقافي الغير سوي الذي شكل وجدان الكثيرين ولم ينفك منه حتى المستنيرين حملة الشهادات الأكاديمية العليا، لأنهم صنيع وتربية ثقافية وسياسية محددة. وظلوا يفكرون بعقليات جداتهم وأجدادهم البعيدة وإن تعلموا، وإن البعض لا يودون الإعتراف بهذه المشكلة التي فُرضت على السودان ولم عالجها بنوه بطريقة عادلة. وظل أصحاب القرارحتى اليوم في معارضة لأي إصلاح قد يمس المكتسبات التاريخية لأفندية المركز وبعض المكونات الإجتماعية. بل ظلوا يبخسون مطالبات الإصلاح المشروعة ،حتى بعد أن أُضطر البعض لحمل السلاح ووصولهم المركز. وليس ببعيد عنا ما تنقله الميديا عن ظاهرة ما يسمى بالإنصرافي وعمسيب ورشان أوشي وعائشه الماجدي ، وردود الأفعال في الطرف الآخر تجاه مايقولون. الحمدلله إن كل هذا الطفح النتن في الجانبين لا يمثل إلا فئة قليلة مع قناعاتي أن البعض ينطقون بلسان بعض الرسميين في الدولة الذي يديرون المشهد خلف الكواليس. لكن جاء الطوفان الوطني بعد حرب 15/ابريل 2023م، وسالت دماء غزيرة وأتسعت المرارات ،ونشأ رأي عام متصاعد جديد لا ينكره إلا مكابر. ذلك الرأي العام الجارف يريد تأسيس دولة المواطنة والعدالة ،ولن يسمح باي تجاوزات حتى اللفظية المخلة بالعدالة والحق الخاص والعام والحل في الطريق. فأنظروا كيف عالجت المانيا عنصرية وتعالي الجنس الآري بالقوانين الصارمة العادلة . والخلاصة أن تحرير العقول والإصلاح ثمنه غال ، وهل نعلم أن الحرب الاهلية التي شهدتها أمريكا 1861-1865 م، التي قادها المصلح القائد /ابراهام لنكولن لتوحيد الولايات المتحدة بالقوة بإستعادة وضم الولايات الجنوبية، التي إنفصلت رافضة للإصلاح بإلغاء العبودية وتجارة الرقيق وفرض القانون قد شارك فيها ثلاثة ملايين جندي وكانت كلفتها نحو (800) الف قتيل من الطرفين.
التحية لأحبابنا في جنوب السودان لقد فُرض عليكم قرار الإنفصال بعد أن باءت كل محاولات المعالجة منذ قبل الإستقلال بسبب تعنت الشمال ، وسوء التقدير من صفوتنا في الشمال. لكن بإذن الله لن يتكرر ذلك في باقي أجزاء الوطن. فالرأي العام قد تغيروكله اليوم, وتوحد خلف فكرة سودان جديد / سودان المستقبل العادل بين جميع مكوناته على أساس المواطنة المتساوية للجميع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مصدر معلومة الحرب الأهلية الأمريكيية : كتاب مترجم بعنوان “ملحمة التاريخ الأمريكي “أعطني حريتي” تأليف اريك هولر ترجمة بدران حامد – 704 صفحة.