فكر إخواننا أبناء القضارف.. قديما.. في نشر مجلة إلكترونية باسم بلدتهم ويفكرون في إصدارها مطبوعة، يقود نشاطها الأستاذ الهمام صلاح كشه ، وقد طلبوا مني المشاركة في بعض إصداراتهم فكان أقرب موضوع إلى الذهن أن القضارف هي صومعة غلال السودان. وكانت الكسرة أول ما تبادر إلى ذهني فكتبت لهم عنها وكانت انطباعاتهم عنها سارة فأحببت أن أشرك فيها القراء وأوردها مختصرة و(حقوق النشر محفوظة لمجلة القضارف).
فالكسرة هي طعام السودانيين المفضل الذي لا يتقدمه طعام، وهي من لوازم الجالية السودانية أينما حلت حتى إن أحدهم حين ينزل غريباً في أحد بلدان النزوح والمهاجر التي تكتظ بهم..وما أكثرها..يسأل أول ما يسأل عن مكان الكسرة والتمباك. فأقيمت لها المصانع الآلية واليدوية وأصبحت مصدر ثروة لا يستهان به لأصحاب المصانع وستات
الكسرة). وإن صحبتها أشياء أساءت للسودانيين كثيراً.
والناس إذا أرادوا وصف شيء بالقدم والعتاقة أو وصف إنسان بالكبر قالوا (فلان أقدم من الكسره) وهو تشبيه مبني على حقيقة تاريخية ثابتة بل إن أول إضراب في السودان حصل بسبب الكسرة روى صاحب (حقيبة الذكريات..عليه رحمة الله..أستاذنا بروف عبدالله الطيب أن أول إضراب في كلية غردون تسبب في إثارته الطلاب الذين جيء بهم من رواق السنارية بالأزهر وذلك أنهم احتجوا على تقديم الطعام بالشوكة والسكين والزبدة والمربة وطالبوا بالكسرة ….. وقال رحمه الله وزعم الدكتور هانزا الألماني عالم الأثار في بعض حديثه لجمعية الخرطوم الفلسفية سنة ١٩٦٣م أن السودانيين القدماء في دولتهم التي كانت تسمى مروي في القرون السابقة للميلاد كانوا يصنعون الكسرة ولديهم آنينها من خمارة ومرحاكة طحن ودوكة عواسة وأن كلمة الكسرة نفسها كانت مستعملة بينهم.
أما أدوات صنع الكسرة الواردة فيما نقله البروفيسر عبدالله الطيب عليه رحمة الله عن هذا الألماني فمنها الدوكة ؛ والدوكة كما هو معروف صَحفة ملساء من الفخار (الطين المحروق). ولا أدري إن كانت قرية دوكة نواحي القضارف مأخوذة عنها أم أنها الدوامة من الطين الخادع يخوضه الإنسان ليعبر إلى الجهة الأخرى فلا يخرج منه حتى يبتلعه، ولعل قول إخواننا المصارية( راح في دوكة) هو من هذا الباب لأن الطمي في الدلتاوات أو في شواطئ الأنهار بهذه الصفة بل أسوأ وقد نجوت منه وشقيقي يوسف بأعجوبة في بعض شقاوات الطفولة في مرابع لهونا على النيل الأزرق. هذا وقد يستخدم الصاج مكان الدوكة. أما المرحاكة فعربية قديمة وأصلها ( مِرهَكة) من (الرَّهْك) وهو الطحن ، وقد وصفها الرحالة بوركهارت في رحلته في بلاد النوبة ولي معها وقفة مطولة في غير هذا الموضع. أما الخُمَّارة فقد كانت برمة من الفخار يخمر فيها العجين رأيناها قبل أن تتطور الآنية. ولكن الطريف أن أحدهم أدخل والدته العجوز إلى الحمام الإفرنجي – أكرمكم الله – فمكنت طويلاً وخرجت دون أن تفعل شيئاً، فسألها فأخبرته بأنها لم تجد موضعاً لقضاء حاجتها، فأشار لها إلى حوض السايفون فاندهشت وقالت له: … هنا؟ قال نعم فقالت: كر علي يا يابا الله يعلم يا ولدي يستاهل يسووه خُمارة. ولولا خوف الإطالة لاستطردت إلى شرح بقية أدوات العواسة نحو القرقريبة
والمعراكة والريكة والسايورة وأخواتها.
ولا يفرغ الإنسان من وصف الكسرة حتى يقفز إلى ذهنه الإدام (الملاح) وإدام الكسرة الأول هو اللايوق ويكة ناشفة أو المفروك بأنواعه و اللايوق عربي قديم وهو فاعول من (ليق) وأصله تليين الطعام. وفي حديث عبادة بن الصامت : (لا أكل إلا ما لُوِّق لي) يعني ما لُيِّنَ لي واللين والالتصاق هما صفة الويكة واللايوق حتى إننا حين نصف الإنسان (اللزقة) نقول له (يا ويكة أو يا لا يوق) وقطعاً فإن ملاح (أم رقيقة) هو سيد إدامات الكسرة وأطيب أنواع أم رقيقة ما دخلت فيه (لحمة) الضان السمينة ؛ ذكروا أن السيد عبد الرحمن المهدي – رحمه الله – قدم ملاح (أم رقيقة للوزير المصري علي ماهر باشا لما زار السودان عام المعاهدة (١٩٣٦) وأعجبه الملاح ولكن لم تعجبه بداوة اشتراك الناس في أكله من إناء واحد فقال: (بس لو كان كل واحد مَعْجَنتُو لِوَحْدِيها) نسي صاحبنا أنه بين قوم شعار ثقافتهم وبروتوكول طعامهم (بارك الله في زاد كثرت فيه الأيادي) ورثوا ذلك من أهلهم الذين يقول شاعرهم (وإني امرؤ عافى إنائي شِركة) يعني (عيب ياكل براهو).
وكانت الذرة بأنواعها هي حياة أهلنا فإذا افتقدوها فلا حياة لهم، وكان أحدهم إذا حاز (مونة السنة) من العيش فكأنما حاز الدنيا بحذافيرها . قال بعضهم يخاطب العيش:
مالك يا العيش على تجائن
أَرْخَسْتَ الشباب حتى البهايم لأنن
القُوَا والضعاف من غيرو ما بتتحانن
شحاط لي العروق لامن المفاصل بائن
وكانت مادة الكسرة الأساسية هي الذرة وهي أفضل ما يسمنون عليه هم ودوابهم.. وأفضل أنواعها الفيتريتة ولكنهم تحولوا عنها حديثاً لدكانة لونها . وزعموا أن فيها مادة غذائية حتى إنهم إذا أرادوا تقليل فحولة الحمار أو الجمل – أكرمكم الله – غيروا عليقته إلى المايو أو المقد أو وزن عشرة، وربما سرى ذلك على الرجال.
ومن الذرة يصنع أهلنا ألوانا من المشروبات كالعكارة والموص والمديدة والنشاء..وما الحلو مر (الأبريه) إلا عصير كسرة مطور، وكلها طلباً لقطع العطش أو التسمين . وكان أستاذنا أبو الحيران الشريف الهندي الشريف عمر الهندي عليه الرحمة.. يسمي الموص المصنوع من كسرة التكية (تكية كولا) على وزن (بيبسي كولا).
ومن الذرة أيضاً يصنعون العرقي والمريسة والأخيرة غذاء رئيسي في بعض البيئات الجنوبية والغربية وذهب الأستاذ حسن نجيلة إلى أن أهل بوادي كردفان يرون المريسة علاجاً وهو كذلك في كثير من بيئاتنا وهي موصوفة لأمراض الكلى خصوصاً. ومن طيبة أهلنا وغفلتهم أنهم يرون المريسة غذاء نافعاً مقوياً فقد ذهب أحد أهلنا في الجزيرة إلى الحكيم (الطبيب) فأراد أن يحقنه بحقنة فلم تخترق جلده فقال للمريض : إنت بتأكل شنو ياعم ؟ فقال له : لبن بقرني والغبشاء . فقال له الحكيم لبن بقرتك عرفناه ، الغبشاء شنو ؟ قال : المريسة. لذلك قال شاعرهم: (شارب الوِرد عضمو انسمر) والورد هو المريسة البايتة.. بل يحرصون على علف مواشيهم بحثالة تصفية المريسة وهي المعروفة بالمُشُك أو المسكاب وهو صالح جداً لدواب الركوب وغيرها ومدر فعال للبن والبول..أكرمكم الله… ومع غفلة من يرون المريسة غذاء لهم ولدوابهم تجد حذراً ظاهراً عند بعض أهل التدين الذين لا يشربون حليب الماشية التي تتغذى بالمشك تأئماً. هذا والطريف أن العرب تعرف المريسة وتسميها الغبيراء ، والغبرة والغبشة واحد . وكانوا يقولون هي خمر الحبشة . ويرى أستاذانا الراحلان البروفيسور عبد الله الطيب والبروفيسور الشيخ حسن الفاتح قريب الله – رحمهما الله – أن الحبشة في النصوص الإسلامية هي سوداننا بشحمه ولحمه …وبالهناء
13/8/2024