“هَلْ أسخَرُ؟ أسخَرُ كثيراً. فالسُّخرِيَةُ وهي البُكاءُ المُبطَّنُ، خَيرٌ مِن دُموعِ الاستعطاف، لأنَّ الأجلَ قد امتدَّ بِنا إلى ما دونِ أرذلِ العُمر.
اضحَكْ، يا ولدي، اضحَكْ، فليسَ في وُسعِنا أن ننساقَ في لُغةِ الحُزنِ أكثرَ مَمَّا انسقنا، فلنوقِفها بالسُّخرِيَة، لا لأنَّ السُّخرِيَةَ هَيَ اليأسُ وقد تهذَّبَ كما يقولون، بَلْ لأنَّها لا تُثيرُ الشفقة.” – محمود درويش / الرسائل مع سَميح القاسِم
كثيرونَ هُم الجميلونَ والجميلات، الذين تآلفتْ روحي وأرواحُهم سِنينَ وسِنين، وتواصلنا عبر الأسافير مرَّاتٍ ومرَّات، ولكن لَم تشأ أقدارُنا أن نلتقي إلى أن …
وما أقسى إلى أن …
حينَ نعى الناعي هذا الصباحَ الحزين الكاتِب الجميل الفاتح جَبرا، رجعَ بي الزمنُ والذاكرة اثْنَتَيْ عشرةَ سنةً للوراء، وتذكَّرتُ المرَّةَ الوَحيدةَ التي تواصلتُ فيها معه عبر الإيميل، ثُمَّ الهاتِف.
أذكرُ أنَّي قرأتُ في مايو 2012 م، مقالَ جَبرا “جابَتْ ليها استحياء …” والمنشور في موقِع (سودانايل)، وتناول فيه شيئاً من خَطرفات النائب البرلماني في ذلك الزمانِ البَئيس المدعو (دفع الله حسب الرسول) وشماتَتِه مِمن يكتفي بالزواجِ من امرأةٍ واحدة، وليسَ مثنى وثلاث ورباع.
دفعني مقالُ جبرا لأنْ أكتُبَ أنا الآخَرُ مقالاً سِرتُ فيهِ سيرَهُ واسميتُه (قال شنو دفع الله ود حسب الرسول؟!)، ونشرتُهُ وأرسلتُ رابِطَهُ بالإيميل لجَبرا، فردَّ عليَّ بما يلي:
“عزيزي عصام، التحايا والود
أيّ كلام في الإيميل ما بنفَع … هاك تلفوني.
سلام”
أذكرُ هاتَفتُكَ، وقلتَ لي، حينَ اكتشفتَ أنِّي أُكَلِّمكَ من خارجِ الجُغرافيا والتاريخ و…: إنتَ ما في السودان؟! وضَحِكنا حينها على سودانِنا مُفرِّقِ الجماعاتِ والأرواح، وما كُنا ندري أنَّ الغيبَ يدَّخِرُ لنا فِراقاً يطولُ وحرباً ظالِمَةً أشعلَها مَلعُنونَ، ترحلُ أيُّها الجميلُ ولا يرحلَون …
سلامٌ على رُوحِكَ وأنتَ ترحلُ بعيداً عن النَّيل، وعن صُحُفٍ أقلقَ هدأتُها عمودُك المُشاكِس (ساخِر سَبيل)، وسؤالُكَ الذي رحلتَ وما مَنْ جوابٍ له: (أخبار خَط هثرو شنو؟) …