لا أذكر آخر مرة رأيت فيها صحيفة ورقية. لحسن الحظ هذا ليس خاصاً بي، فجافل من البشر يعيشون نفس الحال، لتصبح حكاية الصحف من أحاجي وأساطير الأولين!
توارت حسناء المطابع والأكشاك هرباً من هذه الداهية المسماة وسائل التواصل الاجتماعي، والتي مسكت بتلابيب الصحف الورقية، وامتدت مخالبها للصحافة الإلكترونية التقليدية التي أرادت الاستحواذ على التركة، بل وقامت برفس القنوات التلفزيونية نفسها تحت الحزام، فلم يصمد أمامها إلا من كان له ظهر مصنوع لتلقي الركلات.
ليت الأمر توقف عند ذلك، فقد طال عهدي، وعهد كثير من الجحافل، بالقلم، وحلت لوحة المفاتيح الإلكترونية محل أقلام (البيك) التي كان يتم تقسيمها لنا في مكاتبنا بالصحف، كما تهيأت لوحات المفاتيح في أجهزة الموبايل لنقرات الأصابع، فأصبحت هي كاشف بوحنا وأسرارنا للآخرين، بلا حفيف ورق، ولا “نكهة” خط، أو عطر حبر!
الدنيا تتغير بجنون، فحتى الحروب تتهيأ لتأخذ أشكالاً محدثة، سمعنا بالأمس عن تفجيرات أجهزة البيجر في بعض ديار العرب، وهي الأجهزة التي عفا عليها الزمن ولا تحمل شيئاً من التقنيات المهولة الحالية، وهكذا سيمتد الأمر بسهولة لديار الأمن السيبراني، ليشمل بمهدداته كل الشبكات وأجهزة الموبايل، أي التفجير عن بُعد، فلا حاجة لصدام غير مأمون النتائج، ولا حاجة لنزالات محدودة الضحاياً!
الصراعات القادمة هي صراعات الإبادة الشاملة، ليس للبشر وحدهم، بل لكل ما صنعت الحضارة من إنجازات تقنيّة لم تكن تخطر على بال من عاشوا قبل عقدين من الزمن.
الحمد لله على كل حال، فحربنا الحالية، رغم كل آلامها المبرحة، وآثارها المفجعة، ستكون ضمن الحروب “رقيقة القلب” التي ستتحدث عنها الأجيال القادمة، فماذا يعني انقطاع النت (المدفوع) بل وكل الاتصالات عن الناس أو بعضهم في أزمان ستصبح فيها وسائل الاتصال المدفوع من مخلفات الماضي، وماذا يعني موت عشرات الألوف في أزمان ستشهد موت عشرات الملايين، وربما المليارات، في أوقات قادمة؟!
عشنا زمن الهزيمة لصحافة الورق، وعشنا زمن الاندحار لقلم الكتابة، كما عشنا زمن الحرب التي فجعت كل بيت، وستصنع واقعاً لا يعرف أحد مكانه فيه.
أحسن ما ستخلفه مأساة السودان الحالية، هو أنها ستصبح درساً لن يجرؤ أحد لاحقاً على تكراره.
تعالوا لنحلم بغدٍ أفضل..
والدنيا منى وأحلام.. يا سلام!