لعلّها سانحة لوقفة مع الذات، والتأمُّل فيما انقضى، و”تجويد” ما سيأتي، إن أمدّ الله الآجال. هذه سُنّة حميدة استنّها الإمام الراحل، الصادق المهدي، عليه الرضوان، وهي بالفعل فرصة لمراجعة حياة الإنسان في عامه، ومحاولة البنّاء على أسس جديدة كلّ مرة، بسببٍ من النقد الذاتي، في مواضع، والتطواف على الشأن العام كله، واتصالنا به، سلبا وإيجابا، في مواضع أخرى، والامتنان الذاتي، في مواضع ثالثة، لتجنّب أمر ما، أو الاشتغال على آخر، بعزمٍ وجد، ما أثمر إنجازا ما.
تمر ذكرّى ميلادي، هذا العام، والوطن في كربٍ بالغ، بل مجموعة كروب، يمسك بعضها برقاب بعض، على أن “الضِغث على إبالة” في كل هذه الويلات، هو أن العقل في تمام عجزه عن اجتراح حلول تضع معالم على طريق تحوّل جذري في كل أوجه حياتنا التي شاهت و”شاخت” حتى لم يبق متسعٌ في الانحطاط الشامل لانحطاط يتخذ شكلا آخر، فقط بلغنا مساقطه، واتخذنا أمكنتنا فرحين بما آتانا، ونحن نبعد لا فراسخ، بل قرون عمّا بلغته التجربة البشرية من تصالح مع الذات ومن سير في طريق التنمية ومن احتفاء حقيقي بالآخر وحقوق الإنسان والحريات والإنتاج والعلم والعمل.
ولا سبيل للخروج من مأزقنا الوجودي هذا، سوى تدبّر عميق، وجماعي فيه، ومن ثم التوافق على “هندسة جديدة” للمستقبل، تستأنس بالعلم، وتتكئ على تجارب الآخرين في الانسلال من الأهوال، أكثر معافاة، وأكثر قدرة على الاستبصار وعلى “خلق” وعي جديد، لأن الوعي هو أسُّ أزمتنا المتطاولة، وفيه يكمن خلاصنا، إنما يحتاج علماً يكون هو “الأساس” في رؤية البناء، ويحتاجُ صبرا، يضيق به سوادنا الأعظم ممن غُرست فيهم العجلة و”شُح النفوس” والرغبة في قطف الثمار بعد وضع البذور في الأرض فورا!
وفي هذا كلُّه، قررت “اعتزال” الحديث والكتابة عن الشأن العام، منذ قرابة العام، لأن النفس في حاجة للتأمل أكثر، والتفكير بعمق أكبر، لمعرفة موطن الخلل المتجذر، وبالتالي، الإسهام بـ “جهد المقل” في ما يمكن وضعه من حلول، تنهي، مرة، وإلى الأبد، آلامنا التي نحملها على ظهورنا، تائهين، منذ قرون، لا أرضا قطعنا ولا ظهراً أبقينا، بل وقصمنا ظهر الوطن بتهافتنا و”خفتنا” وما انزرع عميقا في “شخصيتنا الجمعية” من تكاسل وتباطؤ وحميات عصبية وقبلية وأيدلوجية وعزوف عن العمل والعلم وميلٍ إلى التنظير و”الكلام” فيما نجيد وما لا نجيد. ولعلّي عكفت على قسمٍ من ذلك في “إرهاصات الوعي ونكساته.. الجذور الثقافية للمسألة السودانية”، وهو أقل من جهد المقل، وكان علىّ أن أغذُّ الخطى، لمتابعة ذلك، على علاته، بكتاب آخر أبسط فيه رؤية متواضعة من أجل الإصلاح، بعد أن طُفت – قليلا – على الأسباب التي أقعدت بوعينا وعقلنا الجمعي وأفرزت كل هذه التشوّهات التي لا طائلة من وراء معالجتها جذريا بسبل علمية لا تغفل المسببات ولا الواقع بكل تعقيداته وتشابكاته. غير أن مجرد التفكير في الكتابة والبحث، ورهقهما، أصاباني بالكسل، وهو علة جمعية عندنا، حيث نستسهل “الكلام” ونستصعب “الكتابة”، في حين أن الأخيرة أبقى وأفيّد! وبطبيعة الحال، قيل إن عليك حفظ ألف بيت شعر، ثم نسيان كل ذلك، لتتمكن من كتابة بيت وحيد، فما بالك بكتاب كامل؟ والقراءة ذاتها، للأسف تراجعت في الاهتمامات، ومكتبتي، هناك على ضفة النيل الأزرق، لا أدري مصيرها، وأين انتهت الكتب، هل مُزقت، ومزقت معها ذاكرة مترعة، أم أضحت وليمة نار لطعام أعدّ على مهل أو عجلة، أم رُميت في الشارع كشيء “زائد عن الحاجة”؟
وفي وقت “استسهال” الكلام، يبقى الانصراف عن قنواته، مثل وسائل التواصل الاجتماعي، في وقت “فورة الجنون الجماعي” والارتياب والتشكيك والتخوين والميل إلى التسطيح و”الشعبوية”، يبقى أمرا يقرّب المرء أكثر إلى حكمة ينشدها، بعد هذا العمر، لأن حديثا كهذا، على قارعة الطريق، دون أسس للحوار، ودون معايير للموضوعية، وفي ظل نزعات التجريم ورفع المصاحف، بل وكل شيء، على أسنّة الرماح، من أجل اللحظة الآنية، دون إجالة البصر، كرتين، في ما أُلنا إليه، وما سينتج عنه، وما جذوره، وكيف نفكُّ التشابكات كلها، حديثا كهذا سيدور في فلك أقرب للجاهلية الأولى بين الصراخ ومسك خناق الأفكار والرؤى و”قتلها”، لا بحثا عن ضوء، وإنما رغبة في الإظلام التام، كمن يتخبطه المس، وهذا حالنا الآن، فمن السهل إسكات البنادق، من الصعب إخراس البنادق التي في العقول!
وفي هذا الجانب، أشفق حقا على أولئك الذين تحمل أرواحهم و”تتحمل” كل ذلك القدر من الكراهية. الكراهية لا تؤذي الآخر، إنما الذات، فهي نارٌ تلتهم الروح، وتحيلها رمادا!
وقد عبرت الخمسين ونيّف، يُصارُ إلى زهدٍ أكثر في السجالات عديمة النفع، وإلى تصالحٍ مع الذات أكبر، وإلى مراجعات ووقفات وتأملات. يُصار إلى عزوفٍ عن إرضاء الآخرين، وميلٍ إلى “العزلة”، عزلة التأمل والقراءة و.. المراقبة، فليس بالإمكان أبدع مما كان الآن، ولا ضير أبدا من محاولة غرس بذور جديدة، لعلها ترى النور في أزمنة لاحقة، لن نكون من شهودها، هذا إن لم يقتلنا الأسى أو الرصاص أو المرض.
مرّ عام، سافرت خلاله، إلى خارج وطني، غير مرّة، وعدتُ ملهوفا إليه، وكأنه سيسرق في غيابي. لم اعتد على ذلك. لم اعتد على تلك النغزات العميقة في الروح حين أغادر وطنا، أمضين عشرين سنة خارجه، جائلا بين الخليج العربي والمحيط الأطلسي، لكن الاغتراب تعب، والبقاء في الوطن، أيا كانت الظروف، يجلب هدأة في الروح وطمأنينة وسكينة لا تقدر بثمن!
مرّ عام، وهو عام على نحو أكثر دقة على التحاقي بعمل جديد، قدمت إليه مملوءا بالرغبة في العطاء والإنجاز والعمل الدؤوب، وأظنها خصال تمتعت بها طوال سنوات عملي، جنبا إلى جانب خصال سيئة، أرجو أن أعمل بجدٍ على إصلاحها في عام قادم، إن أمدّ الله في الآجال.
في الظروف الحالية، رحل الكثيرون.. أحباء لنا من الأهل والأصدقاء والمعارف والمبدعين والمفكرين، وهو إلى جانب أنه قدرٌ في هذه الحياة التي لا تستقيم إلا بالموت والولادة، مؤلمٌ لكون هؤلاء، أو جلّهم، رحلوا بعيدين عن أحبائهم وأرضهم، ولكأنما الحرب جعلتهم أكثر زهدا في الحياة كلها، وهم يرون وطنا سقوه من نبض أرواحهم، لا يبقى فيه حجر على حجر، وترحل أطياره، وتتهدمُّ معانيه قبل مبانيه، فالمباني تُستعاد، والطرقات ترصف، والحيطان تنهض، لكن.. من أين لنا بالمعاني التي أُهدرت؟
مرّ عام، وأسرتي الصغيرة والكبيرة في “شتات” و”تغريبة سودانية” لا يُعرف إلى أين تسوقنا. والحكماء من وطنّوا النفس على رحلة طويلة، وليتها كانت داخل نفوسنا الشحيحة وعقولنا، إذن، لاستقام الأمر ومضينا إلى مكانة أخرى، بدلا من مكانتنا الحالية وإسهامنا المتواضع جدا بين الأمم!
مرّ عام، وأنا ممتن لحياة أسعدتني جداً بالمحبة، محبة الأسرة والأصدقاء وزملاء العمل، سابقا وحاليا، والمعارف، والعابرين. محبةٌ أعكسها كالمرآة، أو هي تنعكس عليهم جميعا، والخلاصة هو محيط كامل من المحبة التي تجعلني قادرا على هزيمة حتى ذرة كراهية في داخلي تجاه أي شخص، حتى الذين أساءوا أو يسيئون إلىّ، وربما هذا جزء من التطهير الذاتي، عليك أن تتقبله بنفس منشرحة وحكمة و.. محبة، فالحياة قصيرة جدا، وأظنها لا تتسعُّ للبغضاء، إن فهمها المرء على وجهها الصحيح، وهي ليست إلا “ممر” ضيق يزدحم بالمسافرين، فعلام العتب، وعلام الخصام، والرحلة سرعان ما تنقضي؟
مرّ عام، وها هو عام آخر يأتي، لتكرُّ حبات مسبحة العمر، ولا فائدة ترتجى، سوى عمل وعزم. لطالما أعجبت للغاية بمقولة الروائي اليوناني العظيم، نيكوس كزانتزاكس: “عجبت لثلاثة من مخلوقات الله، الدودة التي تفرز الحرير، والسمكة التي تحاول الطيران، والدودة التي تتحوّل إلى فراشة”، مختصرا كلاما كثيرا عن “الارتقاء” الذي يتطلب عزما، ويلخص حياته – ذياك العبقري اليوناني – في أنها صعود مستمر إلى قمة الجبل، على صخوره الناتئة وأحجاره ولياليه الطويلة ونهاراته القائظة، لكن، لا شيء يمنعك من رؤية العالم من فوق القمة، حتى إن لم يكن ذلك يستحق، فالعبرة في الرحلة ذاتها، وإرادة الصعود، وهذا، ربما، ما ينبغي للمرء أن يفعله في الحياة، وأثره في الحياة، هو الدماء “التجربة” التي تتركها قدماه على الصخور الناتئة في رحلة الصعود.
شكرا لكل هذه المحبة التي طوقتموني بعقود ياسمينها حول عنقي. شكرا لكل تهنئة معطرة بالمودة والحب. شكرا لكل من جعل هذه الحياة أجمل، وأنضر، وأرقى.