د. الضاوي نوار استشاري الجراحة بالمستشفى العسكري / وادي الدواسر
دينقــا أم الديــار .. بلــد الناظــر بابــو .. و ديــدان المتضايــق ..
و طبيــق ولـْـد الحســنة، و دينج مجوك ، دار لا تعــرف الوسَــطَية .. فهـي إمـا فـرح تـدوي فيـه طبـول النقـارة و الدرملـي و المـردوم و القيدومـة ، وتعلـو فيـه الزغاريـد .. أو حزنـاً تنـوح فيـه النائحـات علـى عيـال مـازال عودهـم بضـاً ، التهمتهـم حـرب الجنـوب ، نعـم .. إرتــوى تــراب الجنوب بدمائهــم الزكية .. وإن لــم تكــن الحــرب .. فهــو الفيــل .. صدقو أو لا تصدقو هو صيــد الفيــل ..
دينقــا أم الديــار لا تعــرف الوســط .. فــالأرض إمــا خضــراء .. تكثــر فيهــا الأشــجار مــن هجليــج و أبنــوس و دنبلــو و عَــرَدْ وطلح .. يمنعــك العــدار مــن الرؤيــة والحشــائش في كل مــكان وبــين كل رهــد وأضــاة توجــد بوطــة ، تحــف بهــا الأشــجار ،
يسـبح فيهـا الأوز والغرنـوق ، يتطايـر فوقهـا السـمبر والرهـو ..
أو طــين أســود يابــس متشــقق .. وشــمس تلهــب .. أمـا إذا تركـت المجلـد خلفـك صباحـاً والشـمس وراء ظهـرك ..
وسـرت نصـف يـوم .. فأنـت في المُقدَمـة .. وهـي دار مـن ديـار أولاد كامـل .. أرض منبسـطة .. شـديدة الخصوبـة يـزرع فيهـا الدخـن واللوبـة والسمسـم ..
في الصيــف يبقــى فيهــا الكبــار وأهــل الزراعــة .. لأن الصغــار والرجـال يشـدون الرحـال مـع البقـر إلـى بحـر العـرب .. لكـن في الخريــف تأبى البقر الطين و الظُلمة و الذباب فيجتمــع الشــمل ويصبــح للحيــاة طعــم و معنى .. حتــى أولئــك الذيـن تغربـوا لمناطـق بعيـدة بـدار الصبـاح ، يأتـون .. كـم بعيـدة تلـك الديـار ! بورتسـودان .. و الخرطـوم .. و كوسـتي .. أمـا الجنـوب فليـت تلـك الحـرب اللعينـة تقـف .. فهـؤلاء قـوم يقاتلـون مرتـين .. مـرة في البحـث عـن المرعـى في الصعيـد.. وأخـرى وهـم يحمـون هــذه الأمــة في أحراش الجنــوب .. لكــن يومــاً ما ســتصفو الأيــام ..
وتعمـر دينقـا مـن جديـد .. كانــت الدنيــا أصيــلاً ومــا أجمــل الأصيــل في هــذه الديــرة .. خاصـة تلـك الأيـام كانـت أيـام الفرح .. فهذا أسـبوع بحالـة والنقارة لــم يهــدأ لهــا صــوت مــن حفــلات ختــان وزواج .. والصبيــان قــد هدَّهــم الســهر .. فبعــد النقــارة ، يقصــر الليــل مــع ”القيدومــة” و”الدرملــي” .
في ذلــك الأصيــل .. فُرشــت الشُــقاق ”والشــقة هــي حصيــرة كبيـرة بطـول أربعـة أمتـار وأكثـر وعـرض متـر ونصـف نسـجت مـن سـعف الـدوم..” فُرشــت الشُــقاق علــى تلــك الأرض القــوز .. فمــا بقــى إنســان واقــف .. رجــالاً و نســاء .. وعلــى صــدر المجلــس جلــس ”الهــدَّاي” .. ”مسـواك الجعبـات” .. هـذه القبيلـة .. أعنـي قبيلـة الشـعراء والمداحـين لا أدري مـن أيـن يأتـون بأسـمائهم .. فبالأمـس كان هنـا الهــدَّاي ”الديــك الرضــع الناقــة” وأســماء أخــرى يخجــل العاقــل مـن ذكرهـا .. لكنهـم مشـهورون بمثـل شـهرة الحكامـات و فرسـان القبيلـة و أسـياد المـال و الجرداقـة و هؤلاء نمط آخر من الشعراء و مثلهم السنجاكة .. أمـا مـن في السـاحة هـذه اليومـين ، فهـو العقيـد الـذي توجـه نحـو الصعيـد .. ووجهتهـم صيـد الفيـل ..
انحنـى الهـدَّاي علـى ”أم كيكـي” و أشعر و غنـى ، كان الجمـع قـد حبس الأنفـاس وران عليهـم صمت القبور ..
شِـعر الهدَّاي في البداية كان الصلاة على الرسـول ”أبو فاطنة” صلـى الله عليـه وسـلم .. وكيـف أنـه لمـا تقابل الجمعان في سـاحة الوغـى .. كان يحوم كمثـل الصقـر .. ثـم أثنـى الشـكر علـى ”الكـرّارَّ” سيدنا على رضي الله عنه .. ووصـف سـيفه .. ثـم أقبـل علـى الديـرة .. تحـدث عـن البنـات .. أوصـف بنتـاً مـن بنـات أولاد عُمـران .. قـال فيهـا شـعراً لـم يقلـه قيـس في ليلــى .. وحينمــا ملــكَ روح النــاس وقلبهــم .. أســهب في بنــات سـعدان ، وبنـات سـعدان يـا عـرب هـي الخيـل .. ولـم يتـرك مهـراً أو فرسـاً يعرفهـا العـرب إلا وتحـدث فيهـا .. مـن خيـل الرزيقـات غربــاً وحتــى خيــل البديريــة شــرقاً .. و الخيــل يلزمهــا الرجــال .. ورجـال القبيلـة كُثُـر .. ولـم يتـرك أحـداً مـن الأمـوات أو الأحيـاء ، حتـى أبكـى النـاس ..
تحـدث عـن الكـرم و الجُود و الشـجاعة .. ومعـادن الرجـال عنـد المحـن وســاحات الوغــى .. إلا أن النســاء قلوبهــا أضعــف مــن قلوب الرجــال ، فنحيبهــن انبثــق دفعــة واحــدة .. ثــم عــلا بكاؤهــن .. حتــى قــام الشـيخ حميـدان ول سـالم .. والدمـع يبلـل لحيتـه وشـاربيه .. وكان لــم تبــقَ فيهمــا شــعرة ســوداء .. أخــذ بلجــام حصانــه ”الأشــقر” وقــاده وســط الجلــوس .. وربــط اللجــام علــى ســرير الهــدَّاي.
الأشــقر كان شــيئاً آخــر .. رفــض أن يشــرب مــن يــد زوجــة الشـيخ الثالثـة .. فأفـرح ذلـك الأولـى والثانيـة .. كان يعـاف الدخـن ولا يـأكل غيـر السمسـم .. وشـرابه اللـبن المخلـوط بمـاء ”العطـرون” وأحيانـاً عسـل النحـل ..
عند كل ظهيرة كانـت نسـاء الشـيخ تقـوده إلـى ”العِـد” .. الكبـرى والوســطى .. الكبــرى تســير أمامــه والصغــرى تســير خلفــه وهــي تحمـل سـعن المـاء .. كان الأشـقر لا يشـرب إلا مـن سـعن المـاء و لا يشـرب مـن أي يـد أخـرى غيـر يـد الشـيخ ونسـائه .. في ذلــك المســاء ذبحــت الثيــران والخرفــان بــلا عــدد إلا أن النــاس أدمَــى قلبهــم الهــدَّاي .. لذلــك تحلقــت النســاء والأطفــال وعلـى مبعـدة منهـم الرجـال .. حـول الحكامـة جِهينـة.. وانتظـروا أن تجــود بشــيء .. صـدق أهـل العلـم حين قالو ، أن الحكامـات حطـب النـار .. فمـا مـن فاجعــة للقبيلــة إلا كانــت وراءهــا حكّامــة .. لكنهــا ســلطان بــلا تـاج .. تعـرف كيـف تلعـب بالحديـث والرجـال.. إذا قالـت كلمـة .. تناقلتهـا في نفـس الليلـة كل الألسـن ومـا بقيـت جهـة مـن دينقـا إلا وصلتهـا..
لكـن تلـك الليلـة لـم تكـن ليلـة للعـرب .. إذ أن الحكامـة جهينـة قالـت : أن لسـانها معلـق في السـماء و لا ينزلـه غيـر صيـد الفيـل ، فــكل ”خشــوم البيــوت” مــن عجايــرة وفلايتــة وأولاد عُمــران اصطــادوا الفيــل إلا أولاد كامــل .. أســكت الجمــع صــوت قمر ول حميــدان ، أكبــر أبنــاء الشــيخ مــن زوجتـه الثانيـة .. وكان رجـلاً قليـل الـكلام ، أكبـر أبنائـه مـن زوجتـه الأولـى لـم يدخـل المدرسـة بعـد ، ولا توجـد بشـاربه أو لحيتـه شـعرة بيضـاء .. وزاد أن نهـض واقفـاً.. وقـد تجهـم وجهـه .. حتـى شـارباه كانـا يرجفـان .. ورفـع حربـة ضخمـة يهزهـا فـوق رأس الحكامـة.
قمـر كان أنصاريـاً مـن أنصـار الإمـام المهـدي .. تسـاقط أجـداده واحـداً تلـو ألآخـر في درب الإمـام .. مـن شـيكان للأبيـض .. لغديـر للخرطوم ! قبــل أن يبلــغ الرجولــة جلــس عامــين بالجزيــرة أبــا وحفــظ الراتــب ، ولــم يــره أحــد يرقــص في نقــارة أو دَرملـَّـي .. و قيــل أن الحكامـة فضيلـة تابـت علـى يديـه .. وحجـت لبيـت الله الحـرام ..
بعــد الحــج طلّقــت الغنــاء ودنيــا الحكامــات ..
أصابـت الدهشـة الجمـع .. مـا بـال الأنصـاري اليـوم ؟ ومن فوق صمـت البشـر وبصـوت أسـمع الجميـع عـدا ضاربـي النقـارة .. قال للحكامـة أن تعطيـه شـهراً وبعضـاً مـن شـهر .. إمـا أن يحضر لهـا ”الدانكـوج” و الدانكوج هو ابن الفيل .. أو يمـوت في دربـه .. ضاربـو النقـارة كانـوا مـن الكلابنـة .. و هم قوم اشـتهروا بضـرب النقارة .. ذاك المسـاء وبعــد أن أبكــى الهَّــداي النــاس هرعــوا إلــى النقــارة ، كانــت طبولهــا الثلاثــة معلقــة علــى شِــعبة من شجر الأبنوس ، وســط الســاحة .. و كان قد أعماهــم غنــاء الهــدَّاي ، فشُّــوا غليلهــم في النقــارة .. خدموهــا خدمـة ! لـم يشـهدها النـاس فى الزمن القريب .. ضربوهـا ضربـاً.. دقوهـا دقــاً .. قتلوهــا قتــلاً .. والنقــارة تجاوبــت ، في البــدء أنّـَـت و بكــت ، و رجفـت ، صاحـت .. رطنـت .. يـا الله يا عيـال الكلابنـة ، مـن أسـخي منكـم إذا صدقـت النيـة ؟ حينمـا تبادلـوا أعـواد النقـارة كان الـدم يقطــر منهــا .. كانــت الــرؤوس تهتــز .. والأجســاد ترتجــف .. ولــم يبـقَ أحـدٌ غيـر الأنصـاري والحكامـة جهينـة خـارج ”الـدارة” ..
حتــى الشــيخ حميــدان قَلـَـبَ البنــات وهــو يهــز رمحــه الضخــم .. وابتسـامة تعلـو وجهـه كانـت تخفـي وجعـاً دفينـاً لا يعرفـه إلا مـن اصطـاد الفيـل .. والشـيخ حميـدان اصطـاد الفيـل في صبـاه .. بعـد أن فقــد شــقيقه الأكبــر والأوحــد في نفــس الــدرب .. كان فارســاً للقبيلـة .. في تلـك الليلـة بكـت نسـاء ابـن الشـيخ حتـى لطمهـن ليسـكتن .. ومشــت أمــه عاريــة الــرأس وحافيــة القدمــين .. ولــم تعــرف أيــن بيتهـا مـن الفريـق ..
حينمــا أذّن الأنصــاري لصــلاة الصبــح وأمّ الجمــع كان في كل نفــس غليــل .. إلا مــن عَبـَـر .. وأولئــك كانــوا تســعة عاشــرهم الأنصــاري .. ذلكــم العقيــد .. وكان الأنصــاري هــو أميــر العقيد .. العشــرة يقطعــون القلــب .. لا أحــد في القبيلــة يفوقهــم جــوداً ولا شــجاعة ولا مــالاً ولا أصــلاً ، رَكوُبهــم الخيــل .. وهــي خيــل ذات أصــل أن أردت الأب أو الأم .. ســلاحهم الرمــاح .. فرغــم وفـرة السـلاح مـن مِرتـِين .. لقرينـر ، أبـو عشـرة ، ماقنـوم أو حتـى الكلاشـنكوف .. إلا أن صيـد الفيـل لا يتـم بغير الرمـح ! هكـذا عُـرف القبيلـة الصــارم ..
صهيــل ”الأغــرّ” عــلا حينمــا رأى أم العيــال .. زوجــة الأنصــاري تحضـر السـرج قبـل مطلـع الشـمس .. هكـذا سـماه الأنصـاري ..
وأشــرف علــى ولادتــه بنفســه .. لــم تســعه الفرحــة ذاك اليــوم .. فهـو مـن صلـب الأشـقر .. كل الفريـق شـهد الأمـر .. أم الأنصـاري بخيتــه كانــت علــى رأس الجمــع حينمــا رأت المهــر ذكــراً أســمته ”سـكتير” المسـكينة لا تعـرف كيـف تنطـق سـكرتير .. أسـمته علـى السـكرتير ونجـت باشـا حاكـم عمـوم مصـر والسـودان .. سـألوها مــا أعجبــك في هــذا النصرانــي؟.. قالــت : إنــه أحــدب و أغضــب و أشـقر و أخضـر العـين و فـوق ذلـك يسـوس الرجـال .. نعـم رأتـه يفعــل ذلــك في الجمعيــة حينمــا أقيمـت بالمجلــد قلــب دينقــا أم الديــار .. إعتــرض الجمــاعة .. أومــأت إلــى الشــيخ حميــدان و قالــت:
أسـالوه علـى مـن سـمى حصانـه الأشـقر .. الشـيخ حميـدان طأطأ رأسـه ولعـن النسـاء .. فالنسـاء لا تبتـل فولــة في فمهــن ومــا مــن عــدو للســر غيرهــن .. الأنصــاري يكره النصاري فهــو رجــل علــى درب الإمــام المهــدي ، أســماه الأغــر ..
فالمهــر كان ذا غــرة تأخــذ بالألبــاب ..
الأغــر أُســرِج ثــلاث مــرات .. المــرة الأولـى كانــت حينمــا أغــار اليهـود علـى فلسـطين وأتـى الزعيـم عرفـات إلـى الأبيـض .. أسـرج الجمـع خيولهـم ولحقـوا بـه .. لكـن خـاب أملهـم فالأمـر كان عرضـاً فقـط .. ولـم تكـن حربـاً حقيقيـة ..
المــرة الثانيــة حينمــا تقاطــرت الأنبــاء باستشــهاد الأمــام الهـادي .. ظـن الجمـع بـأن الصـادق سـليل المهـدي سـيأخذ بثـأر عمّــه فأســرجوا خيولهــم وأوفــدوا رســولاً للناظــر بابــو .. الناظــر بابـو كان رجـلاً ذا حكمـة .. قـال لهـم ، تريثـوا .. فانتظـروا حتـى أفتـى أحـد الفقهـاء ”أُم بتَـّارة” بأمـر عجيـب .. قـال: أن الإمـام لـم يقتـل وإنمــا صعــد إلــى الســماء .. الأنصــاري لــم يصــدق الأمــر .. لكــن تلــك برئــت عرجــاء .. هــذه ثالــث مــرة يسُْــرَج فيهــا الأغــر ..
قبــل شــروق الشــمس كان كل أفــراد العقيــد قــد أســرجوا خيولهـم.. لـم يكـن بينهـم عايـب أو خائـب أو كاذب، كانـوا رجـال قبيلـة.. وخيلهـم كلهـا كانـت فلانـة بنـت فـلان ابـن فـلان .. كانـت زبـدة خيـول العـرب .. عجبـاً لأهـل الخرطـوم .. هـؤلاء قـوم يحلقـون الشـوارب واللحـى وفـوق هـذا العيـب زادوا عيبـاً آخـر .. يسـرجون الخيـل لتجـر عربـات ”الـكارو” .. وا عيـب الشـؤم ..
الطريــق إلــى أرض الفيــل في ” الصعيــد” شــاقة و وعــرة و موحشـة.. كانـوا يسـيرون مـن بعـد صـلاة الفجـر .. حتـى تتوسـط الشــمس كبــد الســماء فيصيــر غيظهــا شــديداً عليهــم وعلــى الخيـل فيـأووا إلـى الظـل وترتـاح الخيـول .. وحينمـا يطـول الظـل ترعـى الخيـول حتـى مغيـب الشـمس .. كـم نبيلـة هي تلـك الخيـول .. الأغــر في وقــت الرخــاء مثــل أبيــه الأشــقر .. لا يشــرب المــاء إلا مــن يــد نســاء الأنصــاري .. غــذاؤه الدُخن و السمســم و العســل واللــبن .. الآن يــأكل حتــى قــش ”الحســكنيت” .. أمــا الرجــال فلــم يكــن غذاؤهـم غيـر ”الفنيـخ” وهـو الدخـن المنقـوع في المـاء يأكلـون منـه ويشــربون مــن مائــه .. شــتان مــا بــين أن يتوســد الواحد منهم جدائــل أنثـاه علـى وسـادة مـن ريـش النعـام مكسـوة بجلـد الماعـز المدبـوغ الناعـم ومعطـرة بالصنـدل والمحلـب وجـذور نبـات السِـعِد ، وبـين أن يتوسـد جـذوع الأشـجار !
الأنصـاري كان إذا نـام علـى جنبـه الأيسـر تذكر مـريم .. ورائحة مثـل ريـح الجنـة هـي رائحة نفسِـها .. أمـا إذا نـام علـى جنبـه الأيمـن أتتـه ”حـوة” بـكل مـا عليهـا مـن بخـور الصنـدل و” الـدروت” والطلـح والحِنّـة . أمـا ليونـة جسـدها فتلـك لا تسـاويها حتى أغصان شـجر ”الليّـون”.. أمــا إذا نــام علــى ظهــره يطــل وجــه ابنــه ”طبيــق” يحمــل رماحـه الصغيـرة .. وهـو يطـارد العجـول .. كـم تقطـع قلبـه ذكـرى ذاك الصبـي .. الآخـرون كان لهـم أوجاعهـم أيضـاً.. فمـا منهـم أحدٌ كان سـخياً بالأنـس في تلـك الرحلة ..
دام الحـال كذلـك أيامـاً وأسـابيع حتـى أكملـوا ثلاثـين صباحـاً .. حينمـا بانـت لهـم أثـار الفيـل .. تتبعـوا أثرهـا يومـاً وليلـة .. حتـى وجـدوا بعـراً كان قـد جـف مـن الخـارج لكنـه لـيَّن بالداخـل .. ذلـك أطلـق فيهـم حمـى وقشـعريرة ..
في اليــوم الثانــي حينمــا وجــدوا بعــراً لينــاً رمــاه الفيــل لتــوه ..
زادت القشـعريرة ووقـف شـعر الأجسـاد .. جهـزوا حالهـم ، تحـت
شـجرة كبيرة أنزلوا السـروج وخلعوا الثياب إلا ما سـتر.. توضأوا وصلّـى بهـم الأنصـاري صـلاة الخـوف .. وأصاخـوا السـمع .. سمعو النَهِيم و النَهِيم يا جماعة الخير هو صوت الفيل !
جاءهــم الصــوت عاليــاً يشــق عنان الســماء .. قفــزوا إلــى خيولهــم وتقدمهــم الأنصــاري .. رمحــه يبــرق تحــت الشــمس .. أتــدرون يــا أهل الحق و الصواب ! وأقــول ذلــك صادقــاً .. بعــض هــذه الرمــاح ذاقـت طعـم دمـاء الإنجليـز والأتـراك ، كان ذلـك مـع الإمـام المهـدي ومـن بعدهـا توارثهـا الأبنـاء عـن الأجـداد وهـا هـي اليـوم مشـرعة لصيــد الفيــل..
كان ركوبهــم للخيــل ”عِــري” والركــوب العِــري يعنــي دون الســروج .. فالفيــل ينزلــق خرطومــه علــى ظهــر الحصــان وظهــر الفـارس .. السـرج والثيـاب يجد فيها مقبضاً لخرطومه .. ويكـون الحَتْف .. لذلـك كان الفرســان دون ســروج أو ثيــاب ..
ركضــت الخيــل ناحيــة الصــوت قليــلا ، كانــت أرضــاً حدبــة .. تكثــر فيهــا الحشــائش والأشــجار .. أشــجار الأبنــوس والطلــح والهجليـج والقَفَـل والهبيـل .. وسـط تلـك الحدبـة رأوا الفيـل .. لـم يكـن واحـداً ، بل كان قطيعـاً مـن الأفيـال .. جفلـت الأفيـال وهربـت ..
فطاردوهــا.. كان علــى مؤخــرة العقيــد قــارع الطبــل .. لا يحمــل رمحــاً بــل طبــلاً .. دوره أن يقــرع الطبــل بــلا رحمــة ..
جــرت الأفيــال جماعــة أولاً والفرســان مــن خلفهــا يصيحــون بأعلــى أصواتهــم وصــوت الطبــل يصــم الآذان .. حتــى تفــرق القطيـع .. أحـد أفـراد القطيـع .. جـرى إلـى سـاحة قليلة الشـجر .. ذاك هــو ضالتهــم .. طــووا الأرض طيــاً خلفــه .. حينمــا صــاروا علــى طــول رمــح منــه .. التفــت عليهــم الفيــل فانقســموا إلــى قســمين الأنصــاري اتجــه إلــى الميمنــة و تقدم أمامه وبقيــة العقيــد إلــى الميسـرة و إلى خلفه .. كان الأنصـاري أقربهـم إليـه لذلـك جـرى الفيـل خلفـه وباقـي العقيـد قـد انكفـأ علـى ظهـره .. وأوسـعوه ضربـاً بالرمـاح مــن الخلف و صوت وقــع الرمــاح علــى ظهــره له صليـل يضـرس الأسـنان .. وكأنهـا تضـرب حجـراً .. وتتزحلـق عليــه..
”أبــو أم خــال” وصــف تلــك الآفــة ويقصــد الفيــل .. بمدرعــة الطليــان .. قــال حينمــا يصيــب جســمها الرصــاص .. تســمع لــه صـدى مثل وقع الرماح على ظهر الفيل .. فأبـو أم خـال قـد قاتـل الطليـان مـع الإنجليـز في ليبيـا ..
وحكــى الأهــوال ، لكنــه كذلــك حكــى أكثــر عــن فتــاة الطــوارق ..
ليتنــي أحكــى مــا قــال ..
كان القتـال شرسـاً والفيـل عنيـداً.. كلمـا بحـث الأنصـاري عـن المطمـورة .. وهـي لحظـة يتحينهـا أميـر العقيـد عنـد التفاتـة الفيـل ليدفــع الأذى عــن ظهــره فيطلــق الأميــر رمحــه في المطمــورة ..
المطمـورة جـزء مـن الرقبـة .. مـن الأمـام خلـف مؤخـرة الصـدغ .. حيـث تنحـر البهيمـة ..
وجـاءت اللحظـة في وقـت أحـس الأنصـاري بنفـس الفيـل علـى ظهــره والأغــر يعــدو بــكل مــا يملــك مــن قــوة وبراعــة .. في تلــك اللحظــة كَثـُـر الطعــن علــى ظهــر الفيــل فالتفــت الفيــل ليحمــي ظهـره .. عندهـا لـوي الأنصـاري عنـق الأغـر إلـى الخلـف .. تلاقـت عينـه وعـين الفيـل .. أطلـق اللجـام .. أمسـك الرمـح بكلتـا يديـه .. وأصـاب بـه الفيـل من المطمـورة .. غـاص الرمـح في رقبـة الفيـل .. فتـرك الرمـح معلقـاً في الرقبـة .. انتفـض الفيـل إلـى الأمـام .. قنـاة الرمــح كانــت تــدور في الهــواء مــع رقبــة الفيــل .. أصابــت الأغــر علي وجهــه فتعثــر و سقط .. وقبــل أن ينهــض كان خرطــوم الفيــل يلطــم الأنصـاري ويرميـه بعيـداً عـن ظهـر الحصـان .. هـذه المـرة تناولـه بخرطــومه ورفعــه عاليــاً في الهــواء وأســقطه علــى الأرض .. الأنصـاري كان رجـلاً صبـوراً .. الحكامـة فضيلـة قبـل أن تحـج بيـت الله الحـرام وتتـرك الغنـاء .. شـبهت صبـره بصبـر “جمـل أبـو مســعود” و أبــو مســعود يــا رجــال الخيــر .. كان يملــك جمــلاً مــن أجمـل الجمـال وأقواهـا .. كان إذا شـدّت الضعينـة للمسـار ينيـخ جملـه في أول المرحـال وكل مـن كان لديـه غـرض لـم يسـتطع أن يحملــه علــى راحلتــه أعطــاه لأبــي مســعود ليحملــه علــى جملــه .. وحتــى حــين لا يبقــى مكانــاً علــى ظهــر الجمــل .. كان يطلــب مــن النـاس تعليـق أغراضهـم علـى أعـواد يدقونهـا علـى ظهـر البعير .. فهـذا ”جمـل أبـي مسـعود .. مـن لـم يجـد مكانـاً فليـدق عليـه عـود” .
لمـا رأى باقـي العقيـد الأنصـاري يسـقط علـى الأرض .. حملـوا علــى ظهــر الفيــل بــكل مــا يملكــوا مــن رمــاح وضجيــج .. والفيــل يترنــح .. حتــى أبعــدوه عــن الأنصــاري .. وهــرع إليــه ضــارب الطبـل .. كانـت كل ضلوعـه اليسـرى قـد تهشـمت.. حينمـا حملـه إلــى الظــل .. أحــس بالهــواء يطقطــق ويفرقــع ويخشــخش بــين اللحم و الجلــد على صدره .. ضــارب الطبــل لــم يحــس أو يــرى شــيئاً مثــل هــذا وظــل بقيــة حياتــه يحكــي عــن ذلــك ..
الفيـل لـه خصلـة ، إذا مـا رأى أحـد أفـراد العقيـد يسـقط أثنـاء القتـال .. وإذا أوشـك علـى المـوت .. يبحـث عـن مـكان الفارس الذي سقط ولايسقط إلا فوقه ليموت ..
كان الأنصـاري يحاول أن يقـول كلامـاً .. لكـن النفـس لـم يدخـل أو يخـرج .. حينمـا نطـق تبـين قـارع الطبـول اسـم ”طبيـق” .. لكـن الفيـل كان يترنـح نحوهـم .. والرمـح مـازال يتأرجـح علـى نحـره .. قفــز قــارع الطبــول بعيــداً .. فســقط الفيــل علــى الأنصــاري ..
وباقـي أفـراد العقيـد يحاولـون بيـأس اختـراق ظهـره بالرمـاح ..
تبـين للجميـع أن الصائـد والفيـل قـد أسـلما الـروح .. ومـن بـين الدمــوع والحــزن .. أخرجــوا الأنصــاري مــن تحــت الفيــل .. كان الـدم ينسـكب غزيـراً مـن فمـه وأنفـه.. جعلـوا مـن عمامتـه كفنـاً وواروه الثــرى .. دون غســل فالشــهيد لا يغســل.
وقــف الأغــر فــوق قبــره يضــرب حوافــره بالأرض في منظــر يقطــع القلــب.. أشــعلوا نــاراً ضخمــة.. أخــذوا رمادهــا.. نثــروه علــى رأس الأغــر، أخرجــوا رمــح الأنصــاري ، هــذا يذهــب لابنــه طبيــق .. أخرجــوا أســنان الفيــل .. هــذه تذهب للحكامــة جهينــة..
الأغــر كان يعــرف مــاذا يفعــل .. سيســير أيامــاً وأســابيع .. إذا أمـسى الليـل .. يأوي إلـى اقرب فريق .. فالخيـل لا تنـام في العـراء .. و أهل الفريق سيكرمو وفاده و يتركوه يواصل الرحيل ، حتـى إذا أصبـح يـوم مشؤوم سـيصحو أهـل المقدمـة ويجـدوا الأغـر واقفـاً علـى مشـارف الفريـق ورأسـه مخضبـاً بالرمـاد .. ولـن يدخل الفريـق إلا ونسـاء الأنصـاري تسـير خلفـه ويقـوده طبيـق ول قمـر الأنصـاري .. ومـن بعدهـا ينتظـرون الرمـح .. فهـذا الرمـح قـد ذاق طعـم دم الأتراك و الإنجليز .. و الفيل ..