يتطلع السودانيون إلى حل يضع حداً لمأساتهم التي لم يشهد العالم أشد هولاً وقسوةً منها، فقد أصبح السودانيون يبحثون عن إجابة قاطعة لسؤال متى يرجعون إلى بيوتهم ويعودون إلى حياتهم الطبيعية؟ آمل العودة هذا جعلهم يتمسكون بأي حل، أياً كان هذا الحل، فما إن أفل حتى يتطلعون إلى بزوغ حل جديد لرؤية نهاية لمآسيهم المستمرة، الحل الآمن هو الذي يوقف الحرب ويمنع تجدد الاقتتال ويخلق المناخ الملائم لإعادة الإعمار وبناء والسلام، فالحقيقة الماثلة ان ليس هناك حل عسكري للصراع المحتدم، والمدخل الصحيح للحل يبدأ وينتهي بتعاقد اجتماعي جديد لا يعالج تداعيات الحرب فحسب وإنما ينظر عميقاً لجذور الأزمة وسياقاتها وإيجاد مقاربة ترسم ملامح المستقبل، هذا الحل ممكناً رغم التحديات المتشابكة، وإن يبدو بعيداً نظراً لتعقيدات الواقع التي لا تساعد على الحل ولكن نراه قريباً إذا ما توفرت الإرادة السياسية للقوى المدنية، وأدراك طرفا الحرب بأن لا جدوى ومصلحة منظورة من استمرار الحرب، وتحجيم الدعم الخارجي لصالح دور منتج للمجتمع الإقليمي والدولي في دعم خيارات السودانيين عملية السلام والتحول الديمقراطي.
عقب تعثر مباحثات سويسرا؛ حدثت تطورات كبيرة على كافة الأصعدة العملياتية والسياسية والجيوسياسية أهمها؛ بداية مرحلة التطبيع وفك العزلة عن بورتسودان وإنتهاء مرحلة من المقاطعة؛ هذا ما أشار اليه بيان مجلس السلم والامن التابع للإتحاد الافريقي رقم 1235 ورسالة الرئيس الجيبوتي رئيس الدورة الحالية لمنظمة الإيقاد، عطفاً على التحولات في القرن الأفريقي ودخول إتفاقية عنتبي حيز النفاذ، وزيادة حدة التوتر في مناطق القرن الافريقي والشرق الاوسط ودول الساحل، والتحركات الدبلوماسية والسياسية في المنطقة، وخطاب قائد الدعم السريع الذي حمل الكثير من التساؤلات عن فحوى الرسائل التي حاول تمريرها خاصة وانه تطرق لعدة قضايا واللعب على ورقة التدخل الاقليمي والدولي، وكان من المثير للإنتباه ردود الفعل التي أثارها الخطاب التصعيدي واغلاق لمسار التفاوض، في ظل تعارض مصالح الدول وفقدان الوساطة الجادة والمؤثرة والضامنة التي تدفع الطرفين الي الحل التفاوضي، الشاهد أن هذه التطورات لا تساعد في انخراط الطرفين في الحل السلمي، ربما يفسر التغيير في الموقفين العملياتي والسياسي بأنه ضمن خلق توازن من شأنه حمل الطرفين الي طاولة التفاوض، ولكن المؤشرات تؤكد بأن هذه التغيرات الداخلية والخارجية تدعم إستمرار الحرب بعدم توازن القوة والضعف وغياب الوساطة والتدخل الخارجي. لا شك أن هذه التطورات تمثل نقطة تحول ومفترق طرق ولا يمكن اغفال تأثيرها على المشهد السوداني على المديين القريب والمتوسط، ولا يتوقع أن تودي السياسات الافريقية الي حل ليس لفشل الافارقة في تسوية النزاعات وتراجع قدرتها على تقديم الحوافز فحسب وانما لإحجام الطرفين على تقديم تنازلات ولتشعب الصراع نفسه الذي دخل مرحلة تضارب المصالح الاقليمية والدولية وعدم وجود توافقات إقليمية ودولية لانتاج حل في السودان، فالنتائج العسكرية ليس المعيار الوحيد لحسابات الربح والخسارة ولكنها؛ معيار مهم بالطبع لأنها أثرت بشكل واضح في مواقف الفواعل الإقليمية والدولية، لذلك فإن أي تأسيس لفهم صحيح لهذه التحولات يشير إلى أننا في حاجة لمقاربة جديدة للحل تنطلق من فهم هذه التحولات والتعقيدات الجديدة.
في ذات السياق يمكن قراءة مقاربات القوى المدنية المختلفة للحل التي تتراوح ما بين استمرار الحرب وإستعادة السلطة وإقصاء الاخرين لدى الأسلاميين، التمسك بالمبادئ فوق الدستورية والعلمانية والحكم الذاتي لدى الحركة الشعبية شمال، التمسك بالثورة الوطنية الديمقراطية بأبعادها الاشتراكية والمركزية والجذرية لدى الحزب الشيوعي، وتشكيل حكومة مؤقتة ودعم الجيش وإقصاء الحركة الإسلامية لدى الكتلة الديمقراطية، وبناء جبهة مدنية وتصميم عملية سياسية تأسيسية وإقصاء الحركة الاسلامية وواجهاتها لدي تنسيقية تقدم، بمعنى أن إستمرار حالة الاستقطاب والتدابر السياسي هي الأخرى لا تساعد في إنتاج حل.
إذن القراءة الفاحصة للوضع الحالي تؤكد على حقائق هي؛ إتجاه طرفا الحرب الي البحث عن حل عسكري في ظل إختلال ميزان القوة المتأرجح، عدم وجود مقاربة متوازنة بين الأطراف السياسية، عدم وجود وساطة جادة ومؤثرة، وتدخل إقليمي ودولي في الشأن السوداني، هذه الصورة القاتمة لإنسداد الآفق بقدر ما إنها مؤشر لإستمرار الحرب وزيادة معاناة السودانيين؛ الإ أنها تحمل في طياتها فرصة لإعادة سياق الوضع وتغيير الموقف لصالح السلام بإستقراء المعطيات وتحويلها من حالة عدم اليقين الي حالة بناء الثقة عبر مقاربة بناء التراكم خطوة بخطوة وفق فقه الأولويات لإنتاج حل حقيقي يوقف المأساة ويخلق مناخ إيجابي يمكن السودانيين من العودة الي بيوتهم وحياتهم الطبيعية، تبدأ هذه المقاربة بفتح حوار جاد مسئول لبناء عقد إجتماعي جديد كأساس لإنهاء مآزق الحرب وإعادة البناء والتأسيس، فأي حل لا يخاطب جذور الصراع وآفاق المستقبل لن يكون حلاً مستداماً وسيفتح الباب من جديد لعودة الحرب وربما بصورة أكثر ضراوة وقسوة.
من نافلة القول أن التعاقد الاجتماعي الجديد تعبير عن إجماع السودانيين لإعادة بناء المجتمع السياسي وإعادة بناء وتأسيس الدولة الوطنية وفق مشروع وطني سابق للدستور الذي يقر القواعد التي تبين طبيعة الدولة وشكل الحكم والمبادئ الاساسية لإدارة الدولة والفصل بين السلطات، وكذلك سابق لأي حكومة سوى كانت مؤقتة أو انتقالية ما بعد الحرب. ومعلوم بالضرورة أن الدولة السودانية لم تبنى على أساس تطور دستوري كغيرها من دول العالم الثالث، وذلك نتيجة؛ الولاءات الأولية الأثنية والطائفية التي أضعفت الولاء القومي، وأستوحاء ولاءات فوق قطرية على حساب الدولة الوطنية، وضعف مؤسسات الدولة المؤروثة من المستعمر، والصراع الهوياتي، والتراكم الخبيث للأنظمة الشمولية، وضعف الانظمة الديمقراطية، كل ذلك؛ فتح الباب واسعاً للحروب المتطاولة، الخروج من هذه التركة الثقيلة يستدعي البداية الصحيحة بدلاً عن استنساخ بائس للتجارب الفاشلة. وفي المضمار يمثل التعاقد الاجتماعي الجديد ضربة البداية، كما تمثل الحرب الحالية فرصة للتفاعل السياسي والاجتماعي التي تمهد لتوافق سياسي – اجتماعي ومن ثم توافق دستوري. يخاطب التعاقد الاجتماعي الجديد قضايا الحرب والسلام، الهوية الجامعة، العلاقة بين الدين والدولة، التنمية المتوازنة، العدالة الاجتماعية، الديمقراطية التوافقية، الجيش المهني القومي الواحد، والاصلاح السياسي والمؤسسي، هذه القضايا وغيرها لا يمكن اغفالها في مسيرة البحث عن الاستقرار والسلام. صحيح أن التعاقد الجديد يتطلب قدراً من الحرية والاستقرار وشمول التمثيل كما أن تعدد الجيوش وإستمرار الحرب وتشرد السودانيين تمثل تحديات حقيقية أمام التعاقد الجديد، ولكن؛ أثبتت التجارب من حولنا في جنوب أفريقيا ورواندا وغيرهما أن الحوارات والمفاوضات بدأت في ظل إستمرار العنف والا مساواة وغياب الحرية والإستقرار وإتسعت لتعبر عن الشعوب بأكملها وتؤسس لمستقبل واعد، كما ان السمة البارزة في التجربة السودانية تؤكد على حقيقة إلتقاء السودانيين وتوحد إرادتهم والتسامى فوق الجراح ممكناً، تم ذلك التلاحم في طرد المستعمر الأول والثاني وفي ثورات أكتوبر وأبريل وديسمبر، وبعد هذه الحرب إجتمع السودانيون في ملتقيات عدة أبرزها مؤتمر القاهرة وورشة نيروبي وغيرها، وبصورة عامة هناك توافق كبير حول تشخيص الأزمة وإن أختلفت السرديات وتباينت المقاربات وكذلك هناك مداخل حلول تلتقي في الأهداف وتفترق في المسارات والآليات.
التعاقد الاجتماعي الجديد ليس مجرد حدث، وإنما عملية حوارية مضنية وجادة ومتواصلة تبدأ اليوم قبل الغد، لان من شأنها تعرية خطاب العنف والحرب ونقده وإبراز تخلفه، ووضع اليد على مكامن الخلل المتمثل في فشل إدارة التنوع ونفي الآخر والاقصاء، وتغيير القبلة شطر بناء السلام والتخلص من دوامة الإصطفاف “مع او ضد” لصالح الاعتراف المتبادل وبناء الثقة والتعاون لمواجهة أس المشكلة، والاتفاق على قواعد اللعبة السياسية وتحريك خيوطها بما يحقق المصلحة الوطنية وفتح الأعين على الإستراتيجيات الواسعة وليس الأجندات الضيقة، وبناء الأتجاهات المفاهيمية الصحيحة المحفزة للوعي بدلاً عن التدري والضحالة والتسطيح وانتشار الكراهية والعنصرية، والخروج من متابعة الأحداث والتعليق عليها الي سجال الأطروحات السياسية الذي يفتح آفاق لتقويم المشاريع الفكرية والانتباه الي مواطن الضعف فيها ويعزز المشتركات في رؤية إستراتيجية لمعالجة هيكلية لازمتنا الراهنة بدلاً عن الاكتفاء بإدارتها وخلق البدائل بدلاً عن الاستسلام للواقع والتكيف معه، فمن المفترض أن تثير الحرب العقل لإنضاج رؤية جديدة حول القضايا المعقدة وإستيعاب التحديات التي أفرزتها الحرب.
تنطلق حوارات التعاقد الأجتماعي الجديد من مسلمات تجعل المسألة الإنسانية وحماية المدنيين وملف النازحين واللاجئين قضايا فوق تفاوضية، وتؤكد على أن تسوية الازمة وإنهاء الحرب تتم بالوسائل السلمية على أساس توافقي عبر مائدة مستديرة تؤمن الثقة بين الاطراف المدنية وتؤسس لإتفاق سلام مستدام وترفض أي شرعية للحرب وترفض أي عملية سياسية تقوم على أساس المحاصصة أو تمس السيادة الوطنية أو لا تعبر ارادة السودانيين، وتحشد الضغط الشعبي على طرفي الحرب للإستجابة لمطالب الشعب بوقف الحرب، والضغط على المجتمع الاقليمي والدولي لوقف أي دعم عسكري لطرفي الحرب وعدم التدخل في الشئون الداخلية للبلاد وتوحيد الجهود في منبر تفاوضي واحد، عطفاً على دعم المصالحات والصمود الإجتماعي. الاستجابة لهذه الحوارات ضرورة المرحلة، وقد إنتظمت بالفعل حوارات نسوية حول قضايا الحرب والسلام، وداخل اروقة المجتمع المدني، وبين القوى السياسية، وداخل الكيانات الدينية والأهلية، وفي الندوات الاسفيرية وورش العمل والملتقيات، التحدي الماثل في توسيع هذه الحوارات وتجميعها وبلورتها في عقد اجتماعي جديد وإلتقاء الفرقاء في مائدة مستديرة تعالج ظلمات الماضي وتؤسس لآفاق المستقبل، ولكي يكون الحل “بيدينا لا بيد عمرو”، هذا هو المخرج من هذه الحرب اللعينة والمدخل لإعادة التأسيس والإعمار الذي يجعل حلم العودة الي البيوت والحياة واقعاً يمشي بين الناس وليس مجرد شعارات وأوهام تأخذها الرياح ” فاما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض”.