ليس هناك أدنى شك في أن ما يجري الآن في السودان يمثل آخر تمظهرات المشروع الحضاري في تعقيد المشاكل التاريخية للبلاد. مسارات الحرب لا تنفصل كما حركة التاريخ. فكل حدث يدفع نحو آخر. لا يمكن تجاوز النظر للانتهاكات التي يدفع المواطنون غالب ثمنها الآن هنا وهناك دون بحث الفاعل الأساسي الذي يحرك الأحداث بعد قيام ثورة ديسمبر المجيدة.
تحديداً، وبكل الوضوح، عزمت الحركة الإسلامية ممثلة في المؤتمر الوطني، وبعض أجنحتها على عرقلة مراحل الثورة بكل المكر والخداع، وتوظيف التناقضات البينية وسط القوى السياسية من جهة، وبقية مكونات الحراك السياسي والعسكري في البلاد.
وسط هذه السيولة الأمنية، والعسكرية، والانهيار التام للخدمات الإنسانية، وغياب الحقائق المجردة حول يوميات الحرب، أصبحنا ننظر لكل حدث بقليل من المعلومات عنه. فالطرفان يحاولان بقدر الإمكان اختطاف الرأي العام من خلال كوادرهم النشطة. ولما كان إعلامنا الحر المستقل قد فشل في تبني منابر محايدة لنشر حقيقة الأحداث اليومية فإن الروايات المدنية تظل الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يجري على الأرض. ولكن هذه الروايات نفسها تحتاج إلى التحقق حتى لا نقع في مصيدة تزييف الحقائق لصالح أيٍ من الطرفين.
الانتهاكات التي طلت تطال المدنيين بسبب القصف الجوي المكثف المنسوب للجيش، وكذلك الانتهاكات المنسوبة للدعم السريع، مدانة بأغلظ العبارات لدى كل ضمير الإنساني. ولا يستطيع أحد أن يزايد، أو يبتز دعاة لا للحرب على الانحياز لهذا الطرف، أو ذاك. فمنذ اليوم الأول للحرب أصدرت أحزابنا المركزية جميعها بيانات تندد بالحرب برغم علو صوت البلابسة وسط الميديا الحديثة. وبخلاف الأحزاب نشطت كل منظمات المجتمع المدني بخلفياتها كافة في إدانة استمرارية الحرب بوصف أنها أكثر من عبثية، وتقود البلاد إلى حافة الاقتتال القبلي. ذلك انطلاقاً من تأثير المكونات الحاملة للسلاح في الحرب، وقدرة أي مكون على نصرة ذاته بالقبيلة، أو الجهة الجغرافية. وهذا التوجه الإجرامي يتصاعد بين كل تحول وآخر في مسار الحرب. فجميع المشاركين في الاقتتال حريصون على تجييش أرضياتهم الاجتماعية أو الجغرافية، أو الأيديولوجية. على أن خلف هذه المكونات تضطلع جماعات من المؤتمر الوطني متباينة في مواقفها بصب الزيت في النار في كل منعطف عبر نشاط محموم في منصات إعلامية.
ليس هناك ما يمكن قوله في ظل هذا التسارع في إشراك القبائل في صراع الأزمة الوطنية سوى القول إنها طبيعة الحرب الأهلية، والتي أوقدت نيرانها قيادات المؤتمر الوطني في صراعها مع الدعم السريع. ولم تنفع بطبيعة الحال تلك التحذيرات من المكون المركزي السياسية، وعوضاً كان تجريم الناشطين السياسيين القوميين هو من ضمن الخطة الأساسية التي اعتمد عليها المؤتمر الوطني لجني انتصارين: تحييد هذه المكونات بخلط فكرة الحرب الأهلية بالكرامة الإنسانية، وإفشال الحراك القومي الجمعي المنادي بإيقاف الحرب لاستئناف مسار ثورة ديسمبر. وهناك أهداف أخرى فرعية لهذه الخطة الكيزانية تمثلت في ابتزاز المدنيين والعسكريين، وحملهم على الاستجابة لخطة المؤتمر الوطني التي تغذيها الغرف الإعلامية في كل ثانية، واستعادة الروح للخطاب الإسلاموي، وتمهيد المجال لكوادر الحركة الإسلامية للتحرك بحرية وسط مؤيدي الحرب، وتحويل الصراع السوداني من سياسي إلى مناطقي، وهذا ما يرفع عن كاهل الإسلاميين عبء الرفض العام لوجودهم في المشهد السياسي.
إن هذا التصعيد الجديد في الحرب، وموضعتها ضمن الخلفية الجغرافية المغموسة بالعصبية القبلية، يمثل البداية للفوضى الشاملة التي لن تستثني إقليماً دون آخر. وعوداً إلى بدء ما قلناه بأن الأحداث الاجتماعية تمثل سلسلة مترابطة من بدئها حتى منتهاها، فإن من المؤكد أن الأيام المقبلة ستفرز الكثير من مستجدات الحرب التي قد تشل حركة العقلاء من السودانيين تماماً، وبالتالي نكون تحت رحمة مكيدة المغذين للحرب بشكل مستتر، وظاهر.
لا أدري إلى أي مدى بقيت هناك مساحة وسط المتحاربين للتعقل لتجنيب البلاد من التفتت التام عبر الحرب الاهلية الشاملة، ولا ندري إلى أي مدى تستطيع القوى السياسية والمجتمعية المركزية أن يكون لها فائض قيمة وسط هذا التحشيد القبلي للطرفين، وكذلك لا ندري بشأن توفر إمكانية للمجتمع الدولي حتى يحول مسار الحرب إلى نهاية لكي لا يوثر على الأمن الإقليمي، والدولي. ولكن عموماً ندري أن بلادنا للأسف تتجه بسرعة إلى الهاوية السحيقة إذا لم تنبجس المفاجأة السياسية من رحم الغيب لتفرض إنقاذاً للبلاد، ومواطنيها من مستقبل مخيف.