مسطح ومولود ما بين سندة ومحطة

مسطح ومولود ما بين سندة ومحطة
  • 06 نوفمبر 2024
  • لا توجد تعليقات

د. فخرالدين عوض حسن عبدالعال

حينها تلقيت دعوة من صديقى د. أحمد الزامل، لزيارة مدينة الدمام فى المنطقة الشرقية للسعودية، لإلقاء محاضرات على المتدربين بشركة الزامل، فلبيت دعوته بمحبة، وخصوصا وأننى أسمع دوما بطيبة وحسن خلق أهل المنطقة الشرقية..

وبما إنني تربية سكة حديد السودان وترعرعت وسط صفير قطاراتها وقضباتها …والدريسة والصنفور وهندسة سكة حديد..فقد رأيت أن أسافر بالقطار من الرياض إلى الدمام، وبالفعل دلفت إلى عربة مكيفة مفتوحة.. نصفها تم تخصيصه للنساء، وجلست وبجانبي، شخصان، أحدهما بلحية ضخمة وفى يده مسواك وفى الأخرى هاتف تتلاعب به أنامله…والثاني مشغولا بهاتفه أيضا!!

وبعد قليل انكب كل منا على عالمه الخاص في الموبايل، حتى قطع ذلك الصمت، صوت بائع الشاي والقهوة بعربته التى يسحبها أمامه، طلبت قهوة بالحليب، وسألت رفاق السفر: ماذا يشربون، فقالوا لا شئ، ولكني ألحيت عليهم، ودفعت بعدها ثمن المشروبات، وبدأت أرتشف قهوتي، وأصول وأجول بخيالي في قطارات السودان، ومحطاتها وسنداتها ..والأغاني المفعمة بالشوق والريد في شأن القطار في السودان، ولحظتها وكأني أسمع عثمان الشفيع يغني:

القطار المرّ .. فيهو مرّ حبيبي…بالعلي ما مر ونلت مقصودي…
القطار يتهادى حلّ في وادينا…يلا نمشي نروح للمن زمان ناسينا…
السلامة سلامة يلا أنزل بينا…ما مهلنا دقيقة …
بس طار بي محبوبي…يا القطار تدشدش
يا الشلت محبوبي …!!

ومن ثم أسمع صوت صديقتي الفلسطينية الجميلة مريم: فخرالدين لو سمحت شغل كاسيت قطار الشوق ..
وهى تشعل سيجارتها المارلبورو الأبيض، وتنظر إلي بغنح ودلال، وتدندن مع البلابل:

يا قطار الشوق حبيبنا هناك…يحسب في مسافاتك
لو تعرف غلاوة الريد …أكنت نسيت محطاتك
وكان بدرت في الميعاد …و كان قللت ساعاتك
و كان حنيت علي مره …وكان حركت عجلاتك…!!

والقطار فى السودان، هو الذى أطل من نافذته بطلنا على عبداللطيف، عند ترحيله قسرا وظلما من وطنه، إلى مستشفى المجاذيب فى العباسية بمصر ..فكتب عن ذلك واجاد أستاذنا حسن نجيلة فى خواطره ..
والقطار فى ثورة ديسمبر إلهام وجداني ربط المدينة العمالية المناضلة العريقة عطبرة باعتصام القيادة العامة إبان الثورة..

فى القطار كان السودانيين يتعارفوا ويتألفوا، ويتوانسوا، ويتشاركوا فى “الزوادة” فى داخل “القمرات” التي تمتد فيها حبال الإلفة والمودة، وتصل درجة المحبة والمصاهرة، وتدور كثير من القصص العاطفية فى البواخر والقطارات، فإن للسفر سحر وسط السودانيين، ويشبه اعتصام القيادة، فإنه يشهد أواصر محبة ومودة ومعرفة تدوم طيلة الحياة…

وفى سطوح القطارات ورغم لظى حرارة الشمس، تجد “الكوتشينة” والضحك والمرح ..وهذا فى يده ربابة وحوله من يصفق و “يشيل”معاه.. وآخر غير بعيد يدندن مع أوتار عوده في المساء،.. ومجموعة تخفي زجاجة عرق من الشرطة، رغم أن شرطيا ضخم الجثة، وتتدلى كرشه أمامه، فى مقاومة عنيفة “لقاش” قد اهترئ من صراع غير متكافئ..
هذا الشرطى أبوكرش، ورغم أن رأسه صغير جدا ويشبه الليمونة الجافة، كما وصفه عاشق “قزازة العرق”، إلا أن ذلك الرأس أبدا لا “يعمر” وهو يزورهم بين لحظة وأخرى “مبتزا”بكاس، ومن ثم يغيب لحظات قصيرة ويطالب بأخرى.. وأبدا أبدا لا يترنح أو تتثاقل خطوات “كريعاته” التي تشبه أرجل “عنقريب” الجنازة، وهى تحمل جسده الضخم..
وكل مع “ليلاه” يناجيها، والقطار غير مبالي بأحد، ويتهاوى ثملا، تارة بين الصحارى ورمالها، وأخرى بين الحقول أو قريب من شاطئ النيل…وعندما يصفر معلنا محطة جديدة ..ونزول/وركوب مسافرين، قد نشهد لحظات وداع عاطفى لدرجة الدموع بين رفقاء السفر.. والسودانيين شعب “بكاي” عند اللقاء، وعند الفراق، وعند العشق.

ومن الطرائف التي مررت بها في حياتي “القطارية”، أن امرأة من جنوب السودان وكانت مسافرة على سطح القطار، ويسمونها “مسطحة”.. أنجبت طفلها بينما كان القطار منزلقا على السكك الحديدية، ما بين محطة كبيرة وسندة، وهنا قال لها لوال وهو أحد أبناء مدينة بابنوسة: هسه ولدك ده يا مارى يقولوا مولود في ياتو بلد ..لا تامي سندة ولا تامي محطة ..وضحك الجميع ..
وحليل ايام الجنوب، وايام السودان الواحد، وحينما كنا فى المرحلة الثانوية فى بورتسودان الثانوية التى حولها المغول والتتار الى جامعة البحر الاحمر ..يومها كانت مدرستنا قومية وينصهر فيها كافة ابناء الوطن، من كل اتجاهاته، وقد اتى زميلنا فى الفصل حسن كوال من جوبا.. وتعرفنا على الجنوب من خلاله.

وللقطار فى حياتى قصص ومغامرات ممتعة، واذكر ان القطار قد تعطل يوما باحد السندات الصغيرة، فخرج كل اهلها بصوانى الطعام…وحتى بائع “الجنا جداد” اليافع، اصر على اعطاؤنا كل الموجود فى “البستلة ” مجانا…

بينما انا اسرح وامرح مع خيالى وقطاراتى، سمعت زميلى فى القطار يستفسر: يا اخى انتم شعب متفرد وعجيب، لا تعرفنى ولا اعرفك ورغم ذلك عزمتنى على الشاى، ودفعت لنا جميعا ..هذا امر لم اراه فى اى شعب، وعندنا فى المملكة عشرات الشعوب.
ضحكت واجبته: هكذا تعلمنا وتربينا ..وهذا الموبايل اللعين، كان خصما على العلاقات الانسانية، تعال نبعده وندردش ونتعرف على بعض ..

التعليقات مغلقة.