” لا تطلبوا يوما أساي على الغنيمة ما وردت حياضها
ما فاتني زمني
ولا زالت عيون الشيخ ترقب ما أخط
تبارك الحمى وفورة نارها
فلترفعوا هذي الرؤوس
وباركوا فرح الحياة وعارها.”
محمد المكي ابراهيم
من قصيدة (الشرف الجديدة)
ديوان أمتي
……………………………………………
تستفيق المدينة، لائذة بالظلال، ومجروحة الحلق، تطلب جرعة ماء، وتغمس أطرافها في الحياض، تطلب الماء في الزير والحنفية، تشرب من علب اللبن الفارغة، أو فوارغ الخمر، مصفوفة في الجدار الأخير لثلاجة البيت، يطلبون من الجار ماءً وثلجاً، ويطلبهم برتقالاً، وفي العيد يعطونه كوم لحم، وأدعية، ونساؤهم يتبادلن وصف العلاج الأكيد، لشحتفة الروح، أو وجع القلب، أو رغبة الموت، إذ تتنكر قادمة نحوهم تحت مليون إسم! هؤلاء الذين يسعون تحت رحمة الهاجرة، والذين فتكت بأمنياتهم الحرب، فأصبحوا في ديار غير ديارهم، وسماء يجهلون دروب تبانتها، فنام في أعطافهم الشاعر، وهو يأسى لحالهم، ولا يملك إلا أن يطفئ ذبالة مصباحه، ويخلد إلى نومة ابدية، فيصحو في سرمدية، أزلية، في رفقة من مضي من صحابه، ينسجون شعراً يمتد من الأبد وإلى الأبد. ( قل لا إله سوى الله، والموت حق/وشوقي لعينيك حق/ وكوني أضعتك بين الأباطيل أكثرها خسة ونزق/ وكوني فقدتك في غمرة من ذهول/ وفي شبق مستحيل/ وفي غضب مسترق/ وأني جحدت بذلك آلاء ربي/ فحولنا فتلة في الرياح/ وثرثرة في الصخب.)
وكنت حينما أهاتفه، ابتدره بجملة، أستاذي وملاذي… فيضحك.
وفي أحايين أٌخر، يروق لي، أن أحييه، ببيت شعر، مُخترق.. “وقد نبه المكّي في غسق الدجى”. فيغلب عليه الضحك مرة أخري، وكان يسمي ذلك، شيطناتي اللغوية.
كان رقيقاً، كما يليق بشاعرٍ، لماحاً كما يليق بمثقف فذ، فيلسوفاً، يحتفي بالمعرفة، كما ينبغي للأحبار، يتجلى أمامه الكون، فيصف رؤاه، بلغة قل نظيرها، لغة تطيعها معانيها، محكمة في مبانيها، تسوقها زفة موسيقاها الداخلية، كمزنة تسبح في سماء السودان العريض، مختبئة في البستان، الذي يختبئ فى الوردة، كما تختبىء الصدفة فى منعطف الطريق، والعسل البرى فى الرحيق، وطائر الفينيق فى الحريق، يختبىء الحريق فى الشرر، يختبىء البستان فى الوردة، والغابة فى الشجر، يختبىء الخروج فى الأبواب، والعاشق الخائف فى الدولاب، والحزن في طي السحاب.
شدّ ما امتلأت زهواً، وكتابي البكر، الأحمسة، يحمل إسم ود المكي، في التقديم، فاستعرت من (ماياكوفسكي)، رحيق قصائده: فقلت للمرآة (هل أنا رجل أم غيمة في بنطلون؟).
تفتحت عيوننا على ديوان (أمتي)، ونحن بعد غِرارٌ، نعالج التهجئة، بسلوى العشق الأول، للغة، وسحر أبجديتها، وكان للمكي، خيوط مودة تتصل بأسرتنا، فهو أخ لأخانا الأكبر، زوج أختنا الكبرى، بروف (ختمة الملك)، المرحوم الأستاذ (عثمان سنادة)، طيب الله ثراه، كفلتهما (الأبيّض)، وطوتهما في أعطافها، وللحاق بالجامعة، قدما للخرطوم معاً، في (قطار الغرب)، يصيحان للخرطوم في أذنها، وفي العشيات / وإذ أنا أسير دون أصدقاء/ تخرج لي الطوابق العليا لسانها/ ويرقص البناء/ كيداً وسخرية وحينما تملكه الشوق إليها، في الممرات أبصرت وجهك/ من هالة الشعر يطلع/ كالبدر متشحاً بالهوى والوقار/ ثم رحت أناغيك/ بين أزيز المحرك والطائرة/ فتخيلت أن أصابع كفيك/ تدخل شعري بخفتها الآسرة/ ثم تخرج والنوم مستيقظ/ والمصابيح تغمد أسيافها الباترة..
نظم المكي، في وصفها، ما يخلدها الدهر، أو يزيد قليلا. غنى لها، ولنيلها، وللنساء يحتطبن في غابها، خمس من النساء، مخوضات في شراسة الشوك، وفي الشقوق، يجمعن في الغابة، حطب الحريق! يا شجر السنط بوجهك المرصوع بالنوار، بجذعك المهول، بشوكك الأبيض، كالشيب على مفارق الكهول.
ولثورتها، ولأهل السودان أجمعين، فقال في فقه الفصاحة، والشعر الذي يخلو من الريب، (إنني أؤمن بالشعب)، ولأبناء بلادي ساغني، قال، فصار هو، في يد الشعب مشعلاً.
ثم تفتح وجداننا، حينما ، خبرنا حب الوطن، وعشق أهله، وتأصل لدينا هذا الحس المقدس، حين أنشد شعره المغني، فصدح: إسمك الظافر ينمو
في ضمير الشعب إيماناً وبشرى/ وعلى الغابة والصحراء/ يمتد وشاحا/
وبأيدينا توهجت ضياءً وسلاحا!
فتوهجنا وتسلحنا بثورة الشعب، وحينما يصدح بها مغني الشعب العملاق، ويتردد صداها في ميدان الجامعة الشرقي، تتوقف الحياة في السودان، ويعلن الشعب العصيان! فتسقط الديكتاتوريات وتندك عروشها، الواحدة تلو الأخرى.
إلتقيته في سودان الإنتفاضة، فعرفني على الناقد الأمريكي، (ديفيد شابيرو)، مؤرخ سيرة الشاعر الأسود الشهير (لانغستون هيوز)، وكان في زيارةللسودان، البلد الذي أحبه (هيوز)، وتمنى أن يزوره مرة أخرى، ولكن يد المنون كانت أسبق. والتقيته مرة ثانية، في ولاية فيرجينيا، منطقة (واشنطن الكبرى)، وعملت معه في إنتاج مجلة، صدرت منها، ثلاثة أعداد، وتوقفت. وظل يزورني في صالة العرض التشكيلية، في مدينة الألكساندريا، بصورة دورية، نتجاذب أطراف الحديث، وكان ذو طرفة حاضرة، وأهداني نسخة من كتابه، (ظلال وأفيال)، وقدم للأستاذ الراحل (محمد وردي)، قصيدة (سلم مفاتيح البلد)، وقصيدة (فراشة تدور)، والتي طلب من الأستاذ وردى ، فيما بعد، الا يغنيها، فاحتفظ الأستاذ وردي باللحن، واختار قصيدة (يا نجفه)، عوضاً عنها.
ومضى الزمن لا يلوي على شئ، ولم يكف عن الغناء: من اشتراك اشتراني يا خلاسية/ فهل أنا بائع وجهي وأقوالى أمام الله؟/ فليسألوا عنكِ أفواف النخيل رأت رملاً كرملك مغسولاً ومسقياً/ وليسألوا عنك أحضان الخليج متى ببعض حسنك أغرى الحلم حوريه/ وليسألوا عنك أفواج الغزاة رأت نطحاً كنطحك والأيام مهديه/ طاف الكرى بعيون العاشقيك فعادوا منك بالأحلامْ/ ما للعراجين تطْواح وليس لأطيار الخليج بغام/ النّبْعُ أغفى وكلّ الكائنات نيام/ إلا أنا والشّذى ورماح الحارسيك قيام!.
وذات يوم، نظر إلى الشعيرات البيضاء، تغزو مفرقي، فقال لي (رَبعَنت يا ابو السرة؟)
فقلت له نعم وأنا ابتسم، لقد بلغت سن النبوة
فقال لي بل الحكمة.
ثم غادرنا إلى الساحل الغربي، فلم أعد أراه إلا لماماً، وفي الغالب الأعم عبر الوسائط.
وحين زار أسرتنا في السودان، معزيا في وفاة صديق عمره عثمان، و بشرهم بأنه قد بلي من المرض اللعين.
ثم أتتنا الاخبار المتسارعة المتناقلة عن أزمته الصحية الاخيرة، فجلسنا في انتظار البشريات بالشفاء.
هانذا احييك، أستاذي وملاذي وأدعو لك بتمام الشفاء.
وأشهد بأنك، والشاعر صلاح أحمد ابراهيم، هديتموني إلى صراط الكتابة السودانية، وأنني من غيركما لم اكن ما كنته الآن، وانك وكما كتب الراحل الاستاذ حسن أبشر الطيب، حامل لواء الشعر السوداني، من يد المجذوب.
وأنك فخرنا بين متحدثي العربية، و جمهرة شعراءها ، وانك لأشعرهم جميعاً من المحيط إلى الخليج!
ولكن من يصيخ السمع.
تاج السر الملك
2024
Springfield / Virginia
أو (حقل الربيع) كما كان يحلو له أن يترجمها.