فقد السودان عدداً كبيراً من مبدعيه في ظلِّ الحرب اللعينة التي تحصد الأرواح، وتحيل البلاد إلى سكن ترتع فيه الأشباح، وإذا كان رحيل هؤلاء مؤلماً بشدّة، لما لهم من مكانة كبيرة في القلوب؛ عطفاً على عطائهم الإبداعي الذي استمرَّ زمناً طويلاً، شكلوا خلاله المشهد الثقافي الذي بدا بحضورهم زاهياً، ووضَّاءً، فكان حفيّاً بنا أن نفخر ونعتز، ونردد ما يكتبون ويغنون حتى غدا ذلك جزءاً مهمّاً من ذاكرتنا، ومن مظاهر احتفائنا بالمناسبات ذات المعنى، فإذا كان ذلك كله سبباً لما يعتمل في دواخلنا من ألم وحزن عميقين، فإنَّهما يزدادان عمقاً، وهم يرحلون، والوطن يعيش هذه المأساة، التي عكَّرت صفو نفوسهم، وأحالتهم إلى نازحين ولاجئين في أماكن ما ظنُّوا يوماً أنهم سيلجؤون إليها هرباً من بلادهم التي تغنَّوا بسماحة إنسانها وجمال طبيعتها، مستشرفين مستقبلاً أجمل، وحياة أرغد.
إنَّ هذه الانكفاءة للوطن كسرت ظهورهم، وخيَّبت آمالهم، وعرَّضتهم لرياح عاتية زرعت إحساساً في دواخلهم بأنَّهم قبضوا الريح، وباعوا للناس أوهاماً، إلى حدِّ الموت حسرةً وكمداً.
ألا رحم الله الفنان الكبير محمد الأمين الذي غنَّى لثورة أكتوبر 1964م، ولحَّن «نشيد أكتوبر واحد وعشرين»، للشاعر فضل الله محمد، وشارك في أوبريت «ملحمة قصة ثورة» مع الفنانين خليل إسماعيل وبهاء الدين أبو شلة وعثمان مصطفى، إضافةً إلى الفنانة أم بلينة السنوسي، وأدَّى نشيد «المتاريس»، من كلمات مبارك حسن خليفة، و«مساجينك» من كلمات شاعر الشعب محجوب شريف، وقد رحل عنا هذا المبدع الذي ظلَّ متشبثاً بتراب الوطن في بلاد بعيدة (الولايات المتحدة)، كان يذهب إليها زائراً، ويعود متلهِّفاً إلى أرضه وناسه، فكيف كان إحساسه، وهو يرى أحلامه تتبدد، وهو الذي كان يبشِّر وآخر الراحلين الشاعر الكبير هاشم صديق – رحمه الله- بأنَّ (النور في الآخر طلَّ الدار)، وقد (زغرد فجر الثورة الحالم)، كيف لمن صاغ هذه الملحمة أن يرضى بأن يكون في منفاه بعيداً عن وطنٍ عايش انتكاساته وانتصاراته، ولكن وهو يتنفَّس هواءه، ويغازل نيله، ويمشي في دروبه، بل وهو داخل زنازين طغاته، كان ينتظر في أيِّ لحظةٍ أن تنفتح أبوابه، فيكون في حضن الشارع الذي آمن به، وراهن عليه طوال حياته، وغنى له.
وفي موكب الراحلين، كان الشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم – رحمه الله – صاحب الأكتوبريات، الذي اعترف بأنَّ ناتج الثورة كان بائساً، وأنَّه لا يعرف متى تضع معاناة الشعب السوداني أوزارها، ولكنه لم يكن يتوقَّع أن تصل المعاناة إلى هذا الحد، الذي يهيم فيه الإنسان السوداني على وجهه باحثاً، مُكرهاً، عن وطن بديل، ومن ثَمَّ، لم يكن الموت قهراً مفاجأة، لشاعر مثله يعيش الوطن بكل أحاسيسه.
وقد سبقه بالرحيل الأديب والقانوني والمفكر كمال الجزولي – رحمه الله – الذي ترجم ارتباطه بالوطن إلى قصائد، وأعمال فكرية، وظلَّت روزنامته الأسبوعية قِبلة المهتمين بما يجري في الوطن، لما يمتلكه من عمق التحليل بلغة أدبية رصينة ورفيعة، وقد مات كمداً، وهو الذي ظلَّ يطالب بالصبر:
وإذا أصابك مما أنت فيه أذى
فاصبر جميلا وقل: طوبى لمن صبروا!
ولم يصبر – كذلك – الضاحك الباكي الفاتح جبرا صاحب القلم الرشيق، «ساخر سبيل»، الذي اقتحم بسخريته معاقل الفساد؛ كاشفاً المستور، ومواجهاً مصَّاصي دماء الشعب السوداني بجرأة نادرة. مات قبل أن يجد إجابةً لسؤاله الدائم عن خط هيثرو. كان العيش وسط ذلك الفساد في وطن يتنفَّس هواءه أهون عليه من أن يحيا يوماً بعيداً عنه، مهما كان رغد العيش، ويسر الحال.
ورحل مبدعون آخرون كثر في زمن الحرب، مثل: الفنان محمد ميرغني، والموسيقار حافظ عبدالرحمن، والشاعر الياس الصادق، والموسيقار عمر الشاعر، إلى جانب عدد من نجوم الرياضة، والإعلام، رحمهم الله جميعاً.
وقناعتي، إنَّ هؤلاء الذين تغنَّوا بالوطن، ودافعوا عنه، وأسهموا في صياغة وجدان أبنائه، ماتوا كمداً، وقهراً، ومثلهم كثيرون، فقدوا طعم الحياة بعيداً عن تراب بلدهم، ورأوا في الموت راحةً لهم!
ألا رحمهم الله برحمته الواسعة بقدر ما أعطوا وأخلصوا، ورحم كلَّ موتانا، ورحم وطننا وأهلنا من هذه اللوثة التي أوصلتنا إلى هذه المحطة التي ندعو الله ألا تكون هناك محطات أسوأ منها، وأن يكون التعافي هو مصير بلدٍ يُضرب به المثل في الطيبة والتكافل والتعاضد، حتى بدا ما يحدث وكأنه كابوس خانق، وقاهر، وقابض للأرواح قبل تغييب أبدانها.