فيلق البراء لإنتاج الموت وإفساد الحياة

لم يكن المؤتمر الوطني بحاجة إلى فيلق عسكري جديد لتأكيد استقلاليته المزعومة عن الجيش. فكثيرنا يعلم تماماً أن التنظيم وضع يده على الكلية الحربية منذ السنوات الأولى للإنقاذ. إذ صار الانضمام إلى هذه المؤسسة القومية، والذي كان منفتحاً على كل الطلاب الراغبين لنيل شرف الجندية، مجرد خدمة للحركة الإسلامية فقط. تلك الهيمنة الأيديولوجية حدثت بالتزامن مع صدور كشوفات إحالة خيرة الضباط الذين تم تصنيفهم بأنهم معيقون للإنقاذ آنذاك، مخافة الانقلاب عليها. وهذا الإجراء الإقصائي لم يشمل الجيش فحسب، وإنما أيضاً صار خطة استراتيجية اتّبعتها الحركة الإسلامية للسيطرة على الخدمة المدنية، وسائر المؤسسات النظامية الأخرى. بالإضافة إلى ذلك عمد الإسلاميون إلى تجفيف القطاع الخاص في كل نشاطاته من العناصر الوطنية الموالية للوطن، وليس الأيدلوجيا.
الآن يعلن البراؤون احتفاءهم بتحول لوائهم من حالة كونه لواءً إلى فيلق. وهذه خطوة تعمق وجودهم في ساحة الحرب، وما بعد الحرب. ومن ناحية أخرى سيضع هذا الفيلق إمكانياته القتالية ترياقاً ضد أي مسعى للبرهان، أو لضباط شرفاء – إن وجدوا – لتغيير ميزان الثقل الإسلاموي في الجيش عموماً، ومجريات الحرب خصوصاً.
البرهان من ناحية – وهو العاجز عن تحجيم سيطرة تنظيم البراء في الحرب – يتابع لا بد هذا التحشيد العسكري الاسلاموي إن لم يكن أصلاً داعماً له. ومع ذلك تظل قدرته على تحجيم هذا النشاط محل تساؤل. وكذلك يمسي الوهم بوجود ضباط شرفاء يغيرون المعادلة التنظيمية داخل القوات المسلحة سائداً إلى أن يفرز الواقع أمراً ليس في حسبان المحللين لوضعية ما يسمى جيش البلاد افتراضاً.
البراءوون من ناحيتهم لا يثقون إلا على قيادة عسكرية أفرزها تمحيص التنظيم، وهي قد تسيدت في السابق وفق إجراءات تراتبية من داخل الاختبار الأيديولوجي. وانطلاقا من شهادات كثيرة حول سيطرة الحركة الإسلامية على الجيش فإن غياب الثقة في الضباط غير المؤدلجين سيلاحق البرهان مهما أتاح المجال للإسلاميين من أجل السيطرة على المواقع المهمة في الجيش، أو الخدمة المدنية.
إن تحول تنظيم البراء بن مالك إلى فيلق لن يسهم في إعادة قادتهم إلى السلطة، وسيكون جهد المؤتمر الوطني في هذا هباءً منثورا. فبمثلما غرر كبار قادته بالشباب، وصاروا وقوداً للحرب في الجنوب، سيكون مصير هؤلاء الشباب أيضا المحارق الأساسية لهذه الحرب، ومشاهد الموت اللاحق. ولهذا سيجد القادة الإسلاميون أنفسهم في عجز آخر عن السيطرة على البلاد نتيجة لمعطيات كثيرة تجب دراستها.
يحزن المرء كثيراً حين يرى الشباب الإسلاموي – وهم يقدمون أرواحهم فداءً لوهم أيديولوجي – في وقت كان من الممكن أن يكونوا على وعي، وبصيرة، بمجريات الصراع السوداني – السوداني، والذي تحركه أجيال من السياسيين الإسلاميين، لا هم لها لخدمة الوطن، أو الدين. ولو نظر شباب البراء وضعية قادة المؤتمر الوطني لأدركوا أنهم طوال زمن الإنقاذ قد ضاعفوا في ثرواتهم، وزيجاتهم، أكثر من مضاعفة جهودهم لخدمة الإسلام، أو المسلمين، دع عنك المسيحيين، وأصحاب الأديان الأخرى. وبهذا المستوى من الاحتيال السياسي يظل الشباب البراءوون ضحايا للصراع على السلطة، من حيث هي أداة لجلب النفوذ، والثروة، أكثر من كونها أداة لخدمة عقيدة دينية، أو مواطنين ينشدون التقدم، والرقي.
في عصر تفتحت فيه مجالات للشباب حول العالم لتطوير قدراتهم العلمية، والمعرفية لخدمة حياتهم، وتغيير نمط الحياة المتخلف في أوطانهم، ما يزال شبابنا من الإسلاميين يهدرون أنفسهم بما يسموه الاستشهاد. وهو في الواقع استرقاق أيديولوجي من أجل قيادات المؤتمر الوطني، وهي تعيش مع أبنائها في الخارج.
الفيلق الجديد للبراءيين القائم على أبناء الطبقة الفقيرة الذين جرفتهم الأفكار الأصولية، والداعشية، التي لا تتوافق مع طبيعة الحياة، أو القيم الإنسانية المستنيرة، سيكون أداة لتفويج الشباب إلى الموت لا غير. وعندئذ تكون المحصلة فقدان الوطن لقدرات، وطاقات، شبابية دفعت أسرها أغلى ما تملك لتغير مسار حياتها من الفقر إلى الرفاه، فيما ساهمت الدولة في تعليمهم ليحسنوا أداءها المهني الذي يعود بالخير لكل المواطنين.
التباهي الآن وسط شباب العالم بقدرته على دعم الحياة، وليس الموت في ما لا طائل وراءه. وللأسف وجدنا الشباب في العالم العربي والإسلامي يقدم نفسه قرباناً لجيل الآباء الذين يعيشون مع أسرهم في حياة الرغد حتى اثناء الحرب. وبينما يدرس أبناء، وبنات، العناصر القيادية الإسلاموية في السوربون، وهارفارد، فإن أبناء الفقراء، والطبقة الوسطى، من عضوية الفيلق الجديد سيصبحون ضحايا بعشرات الآلاف للحروب القائمة على مصلحة الطبقة الثرية من الإسلاميين.
الإجرام الداعشي لأعضاء تنظيم البراء في حرب السودان يجب ألا يثنينا من القول أنهم أيضاً يعدون ضحايا فكر الانغلاق، والاستبداد، وهذا شغل بذل كبار المفكرين في تفكيك خطله. ولكن لا نملك إلا الأسف على وقوع هذا النوع من الشباب في فخ الجهل بطرق أخرى للنظر. تلك التي تقود الناس للتباهي بخلق مساهمات تحافظ على الحياة، وتقلل مخاطر الموت.